جاء دور التنقيح في فقه المذاهب في القرن السادس . وهو دور النقد والاختيار والحكم على بعض الاقوال بالضعف وعلى البعض الآخر بالقوة الى غير ذلك . فانتصب الغزالي سلطانا على المذهب الشافعي يتحكم بالطرح والاثبات في كتابه « البسيط « وكتابه « الوسيط « . وانتصب حافظ المذهب المالكي ابن رشد الكبير يتصرف كذلك في المذهب المالكي تصرف الغزالي . فيشهر ويرجع ويبين الحكم والعلل كما يبدو ذلك بوضوح في كتاب « المقدمات الممهدات « وكما يبدو بصورة تطبيقية عملية مستمرة في كتابه الذي شرح به العتبية وهو كتاب « البيان والتحصيل « . وانتصب الذي سمي بحق ملك العلماء وهو الامام الكاساني في المذهب الحنفي في كتابه « بدائع الصنائع « يسلك نفس المسلك الذي سلكه الغزالي في فقه الشافعي وسلكه ابن رشد في فقه مالك . فكان اتجاه هؤلاء الفقهاء الى البحث دائما عما يسمى عندنا حكمة المشروعية . ثم اتجهوا في موازنة الاقوال وتقديرها والحكم على بعضها بالاثبات وعلى بعضها بالطرح الى تحكيم المصالح فنظروا الى ما تقصد اليه الشريعة من تحقيق المصالح للعباد، ووازنوا بين الاقوال الفقهية باعتبار ما يكون منها اكثر تحقيقا للمصالح التي هي مرعية في ذلك الباب . ومن هذا العمل، الذي هو بيان حكم المشروعية وبيان مصالح الاحكام وعللها، برز فن جديد نشأ في اول امره في القرن الخامس فنا ضئيلا في مبدئه وهو فن القواعد والفروق الذي ابتدأ في البيئة المالكية العراقية على يد القاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي . فوضع كتابا صغيرا في الفروق بين المسائل المشتبهة ثم ازدهر هذا العمل في القرن السابع فظهر كتاب الشيخ عز الدين بن عبد السلام وهو كتاب « القواعد « وهو شافعي وظهر كتاب تلميذه المالكي شهاب الدين القرافي وهو كتاب « الفروق « . وكان هذا الازدهار الذي ازدهر به فن القواعد والفروق في القرن السابع متسببا في دخول الفقه في دور الاقتصار والاختصار الذي شاع في المختصرات التي عكف عليها الفقهاء . وشكا ابن خلدون عن عكوفهم عليها وهي مختصر ابن الحاجب بالنسبة الى المالكية وكتاب « الكنز « للنسفي بالنسبة الى الحنفية وكتاب « المنهاج « للنووي بالنسبة الى الشافعية . بحيث جنحت كتب الفقه الى الاختصار وضيقت مجال الانظار والتفتت دون الحكم والعلل والمصالح مما تكفل ببيانه الفقهاء في القرن السادس فان الذي طرحه الفقهاء من ذلك حين اخرجوا المختصرات الفقهية اتى هؤلاء يبرزونه فنا مستقلا الى جنب فن الفقه وهو الذي برز في كتاب « القواعد « لعزالدين بن عبد السلام وفي كتاب الفروق للقرافي . وبذلك نرى ان هذا الوضع الجديد الذي ازدهر في القرن السابع وهو فن القواعد والفروق انما اتى بلون جديد في التفكير والتأليف يختلف اختلافا جوهريا عن اللون الذي اصطبغت به كتب « الاصول « من عهد الامام الشافعي الى عهد تاج الدين السبكي . وذلك ان هذه الطريقة الجديدة طريقة القواعد والفروق هي طريقة تتنزل الى الاحكام الفرعية ثم تستخرج منها العلل والضوابط فتسمو بها الى المراجع الكلية التي تجعلها قواعد جامعة او فروقا مبنية لمناشئ الاختلاف بين المسائل . فكان هذا العلم جديرا بان يمتاز عن علم اصول الفقه فسمي علم القواعد والفروق او سمي اوضح او اكثر تداولا ولا سيما عندنا في المغرب علم الاصول القريبة . وان الذي يتأمل في هذا المنهج الجديد الذي برز عند الشافعية والمالكية بكتاب ابن عبد السلام وكتاب القرافي يتبين له انه قد قرب من المنهج الحنفي الذي جافى المنهج المالكي الشافعي منذ القرن الرابع . فهو لم يخرج عن محل الخلاف وساير النزعة المذهبية علم الاصول القريبة لم يسم فوق الدائرة المذهبية ولكنه اراد ان يجعل للمذهب اصولا بمعرفتها يستطيع الفقيه ان يفرع عنها الفروع باعتبار كونها جزئيات راجعة الى تلك الكليات . ثم ظهر في القرن الثاني فخر المغرب الشهير العلامة ابو عبد الله المقري . فسما بعلم الاصول القريبة او علم القواعد والفروق درجة فوق التي تنزل فيها الشيخ عزالدين بن عبد السلام وشهاب الدين القرافي وذلك في كتابه الذي سماه « القواعد « حيث انه اراد ان يؤصل مبادئ كلية لا اختلاف فيها بين المذاهب وان يستخرج من تلك المبادئ الكلية طرقا تطبيقية فرعية هي التي بسببها اختلفت المذاهب بعد ان اتفقت على المسائل المجمع عليها التي هي اثار مباشرة للقواعد الكلية فاختلفت في المسائل المختلف فيها التي هي اثار متصلة بالفروع النظرية لتلك القواعد الكلية . فجاء المقري اكمل الاوضاع في هذه الناحية . يتبع