رجل يخجلك تواضعه، قامة شامخة في المدونة الأدبية الروائية والقصصية التونسية والعربية. صاحب تجربة متفردة في الدراما التلفزيونية عاشق للوطن منتصر للخير ولمعاني الجمال في الوجود متشبث بالأرض يهزّه حنين دائم إلى مسقط الرأس ومهد الطفولة بئر الحفي، التي ما أن يغادرها لشأن ما حتى يعود إلى حضنها أكثر شوقا وحنينا. هو الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر المنتصر دائما للإبداع الممتع بقلمه المتميز. أصبحت قليل الظهور في النوادي والملتقيات الأدبية هل هو إحساس بالإحباط؟ من النوادي الأدبية نعم، من انغلاق ا لمؤسسات على نفسها وتحولها إلى لوبيات ونخب متجانسة في السلوك والأهداف تتبادل الخدمات والمصالح وتشترك في الربح وتخرج من دائرة الخسارة الساحة منقسمة إلى مدللين ومهمشين كحال البلاد والجهات، هل أتكلم أم أصمت. كيف تبدو لك الساحة الأدبية والثقافية في تونس اليوم؟ أرى أنشطة مختلفة ومنشطين ولا أرى جمهورا يترقب أمام النوادي والمؤسسات متلهفا على التلقي والاستفادة والتفاعل لأن المشرفين على حاضر الثقافة ومستقبلها لا يريدون إرهاق أنفسهم بالبحث عن آليات جديدة لاستقطاب الجمهور... هم يعتمدون نفس الأساليب التي كانت سائدة في الستينات، تلك الأساليب كانت إيجابية وناجحة والنوادي تغص بالرواد إلا أن اعتمادها اليوم أصبح خارجا عن العصر لا شك أن هناك أنشطة وفعاليات ثقافية يأتيها الجمهور من كل حدب وصوب مرتبطة أغلبها بالرقص والموسيقى والغناء لكن أي رقص وأي غناء وأي موسيقى مع احترامي الشديد لهذه الأنواع الثقافية وإعجابي بالقليل الجيد منها. ماذا يعني لك تعدّد المهرجانات والملتقيات الثقافية والأدبية التي أسستها وزارة الثقافة وأصبحت تغطي كامل البلاد؟ أرى أنها مبادرة مهمة، فكل المدن والقرى لها الحق في التمتع بالثقافة فكرا وأدبا وفنا فالإنتاجات الموسيقية والمسرحية ومعارض الكتاب والرسم من حق كل فرد أن يكون له نصيب منها، لكن الأهم في هذا أن لا تكون المهرجانات نسخة مكررة وإنما لكل مهرجان خاصيته وميزته وملامحه التي تختلف عن المهرجانات الأخرى. إن أي مهرجان هو فرصة لعرض واستعراض إبداعات المدينة والقرية وأهلهما. عدت إلى مسقط الرأس لشبه استقرار هناك... هل في ذلك حنين إلى الماضي بذكرياته أم ملل من العاصمة التي قضيت فيها فترة نشاطك المهني والإبداعي أكثر من أربعين سنة؟ في الأمر شيء كثير مما تقول.. إنني لم أغادر أبدا مسقط الرأس في أي مكان أقمت فيه، لأن ارتباطي شديد بالمدرسة الابتدائية وروضة الشهداء والحنفية العمومية ذات الصنابير الثلاثة التي قضت عليها أيادي الشر والبساتين والمزارع وسنابل القمح كنت دائما كثير التردد على مسقط الرأس وقضاء إجازاتي فيه. عدت منذ سنوات إلى مسقط الرأس بعد أن أتممت عملي الإداري لأتمتع بالهواء النقي وأتفرج على السحاب يصعد من وراء الجبل الشمس تطلّ من بين الأشجار بنيت منزلا أقيم فيه واعتنيت بالأرض التي ورثتها عن الوالد ولا أتأخر يوما عن القيام بحصة رياضية بين أشجار الزيتون واللوز والخوخ. لم يصبني الملل من العاصمة لأن فيها كل المحطات الأدبية والثقافية التي مررت بها ولأن فيها تلك الشخصيات الأدبية أحياء وأمواتا التي تعلمت منها واستفدت وبما أخذت منهم بنيت شخصيتي وزسست عالمي الأدبي. كنت في فترة ما من الفاعلين في المشهد الدرامي التلفزيوني ثم كان قرار القطيعة النهائية هل مازلت على هذا الموقف؟ من أجل راحة البال لن أعود إلى الكتابة الدرامية إنها تجربة مرة رغم أن فيها فترات مضيئة. مرة عندما تحاصرك اللوبيات وتتخذ منك موقفا معاديا منذ اللحظة التي يعلمون فيها أنك شرعت في الكتابة وعليك في فترة الحصار هذه أن تستعد لمواجهة أنانية المخرج وعقدة العظمة لديه، ثم أن تواجه المساومات حول حقوق التأليف إذا ما تولى المنتج المنفذ هذه المسألة. هل تعلم أنني السيناريست الوحيد الذي لم يحضر تصوير مشهد واحد من عديد المسلسلات التي ألفتها وأنتجتها مؤسسة التلفزة. خلال الفترة التي تعاملت فيها مع دائرة الدراما هناك بعض الطمأنينة والأريحية حسب شخصية الرئيس المدير العام فهناك من له شخصية قوية لا يتأثر بمؤامرات اللوبيات وإنما يقف إلى جانب السيناريست ويؤمّن له حقوقه المادية والمعنوية. ولا أخشى القول إن كل رؤساء المؤسسة الذين كتبت في فترة رئاستهم كانوا من الأفاضل يقدرون الكتاب ويعملون على تيسير عملهم لكن ما دون هؤلاء الرؤساء مسؤولون يمارسون شتى أنواع الحصار على المؤلف فإما أن يرضخ لرغباتهم ونزواتهم وإلا فإنه يتعرض إلى الهرسلة والحصار. إعلان القطيعة مع التلفزة ألا يحمل في طياته ندما على أنك تعاملت في يوم ما مع هذه المؤسسة؟ لا، لم أندم وإنما تأسفت على ما آل إليه حال المؤسسة ألا ترى أنها تنهار باستمرار، بدأ الانهيار في مستوى المسلسلات ثم في قلة الإنتاج ثم في عدمه تماما إلا القليل الذي لا يستجيب لرغبات المشاهدين وانتظاراتهم لا لم أندم لأني لم أنقطع خلال تعاملي مع المؤسسة عن كتابة الأعمال السردية ولقد أثريت تجبرتي الروائية والقصصية بما كتبت من سيناريوهات. ألك توجه للتعامل مع احدى القنوات التلفزيونية الخاصة؟ إطلاقا، لأنني أعلم أن لكل قناة خاصة أهلها وفرقها فلا يمكن اختراق الحصانة التي يحيطون بها إنتاجاتهم، وقد يكون لهم حق، وقد تكون لهم أسباب موضوعية إنما الانغلاق داخل اللوبيات قد يؤدي في النهاية إلى رداءة الإنتاج وسقوطه في مواضيع ومشاهد الإثارة الجنسية وتجارة الممنوعات وهكذا يكون المجتمع وقضاياه الحقيقية وواقع الناس ومعاناتهم وأحزانهم وصراعاتهم المختلفة مغيبة تماما. ...ماذا يعني أن يجهد المبعد وجدانه وعقله ليؤلف عملا دراميا يسجنه بعد ذلك وباختيار منه في مكتبه؟ ذلك يعني المأساة في كل أبعادها أن يقضي المبدع السينارسيت سنتين أو ثلاث أو أكثر وهو منكب في إنجاز عمل إبداعي درامي ثم يأتي أحدهم لا أخلاق له ولا وطنية له ولا ثقافة له ليقف أمامك ويسد أمامك كل الأبواب ولا لشيء إلا أنك رفضت بعض الممارسات وقلت لا، بكل ما تعنيه كلمة لا، طبعا لو أحنيت رأسي لما تم محاربة أي مسلسل من المسلسلات التي وضعوها في رفوف النسيان كان علي إما أن أنظر تحت الطاولة وأناول صاحب اليد الممدوة ما يسكت الجشع واللهفة وإمّا لا أستغرب عملية الرفض. إن في أدراج النسيان لدى مصلحة الدراما مسلسلين أحدهما بعنوان «جبل جنّات» في ثلاثين حلقة والثاني «خريف الغضب» وهو كذلك في ثلاثين حلقة أنا الآن أرى وجوها مسودة تمشي في المدينة من كثرة ما مارست من ضغوط لا أخلاقية على بعض المبدعين حين تلتقي بها صدفة تنكس رؤوسها وتدير الوجه وأحيانا أتخيّل افتراضا أنها مادة يدها. أخيرا أنا لم أختر يوما أن أسجن إنتاجاتي فهي عزيزة عليّ ولكن ماذا أفعل، هل تعاند «الكف الا شفة» كما يقول المثل الشعبي. تتابع دون شك الحراك السياسي في تونس اليوم على أكثر من صعيد، كيف تنظر إليه بعين رجل الفكر والثقافة؟ بروحي ووجداني في قلب الأحداث، إن نبضي يتفاعل مع كل جديد يهم تونس حاضرها ومستقبلها، الآن أشعر بنفسي في عين الإعصار وأنا أشاهد الصراعات على أشدها بين أصحاب النفوذ لا على ما يهم الوطن والمواطن وإنما على النفوذ الإداري والسياسي والمالي. خلال السنوات الأخيرة انهارت أركان كثيرة في الدولة حتى أصبحت السيادة الوطنية مستهدفة والقرار السياسي كذلك، صحيح أن هناك مكاسب تحققت ضمن الأحلام الجماعية كحرية التعبير وحقوق الإنسان، لكن هذه المكاسب ضاعت في دوامة الانهيار الاقتصادي المريع وسقوط قيمة الدينار والتداين من المؤسسات المالية الدولية، ثم ألم تر أعداد الشباب العاطل عن العمل يتزايد شهرا بعد شهر وتزايد الإضرابات في كل القطاعات من وطأة البطالة.. اللهم احفظ تونس من بعض أبنائها الذين تنكّروا لها. إلى أي مدى يمكن القول إنك حققت ما تصبو إليه؟ أنا كاتب محارب أخوض مغامرة ليست لها نهاية، والمحارب المغامر لا يلتفت إلى الوراء. هل حدث أن ندمت على قرار ما؟ رغم اعتزازي بلغتي العربية إلى درجة التقديس فإنني ندمت على أنني لم أكتب رواياتي باللغة الفرنسية. رسالة لمن توجهها وما هو مضمونها؟ لكل من ينتمي بنسب أو سبب أقول هذه البلاد تشبثوا بسيادتها ودافعوا عنها بالظفر والناب ضد الخونة والمنبتين.