تونس الشروق: أنهت هيئة الحقيقة والكرامة أعمالها وقدمت تقريرها لرئيس الجمهورية وأعلنت رئيستها بلغة الأرقام عن النتائج الإيجابية التي حققتها.. لكن اليوم بعد مرور 8 سنوات عن الثورة، هل تحققت في تونس المصالحة الحقيقية والشاملة التي اشترطها قانون العدالة الانتقالية ؟ بعد مسار طويل دام حوالي 5 سنوات وتخللته تجاذبات عديدة، انهت هيئة الحقيقة والكرامة التي كلفها قانون ديسمبر 2013 بملف العدالة الانتقالية أعمالها. اليوم، تُطرح تساؤلات عديدة لدى الرأي العام حول مدى نجاح تونس ومن ورائها هيئة الحقيقة والكرامة في ملف العدالة الانتقالية وهل أنها نسجت على منوال الدول التي حققت نجاحات مشهودة في هذا المجال كشرط من شروط انجاح الثورات وهل كان عمل هيئة الحقيقة والكرامة مناسبا لذلك أم هل انها قصّرت وماذا عن دور بقية المتدخلين في الملف من سلطات وسياسيين وأطراف معنية بالمصالحة ومجتمع مدني وغيرهم؟ قانون ديسمبر 2013 عرف العدالة الانتقالية بأنها « مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان بكشف حقيقتها ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم بما يحقق المصالحة الوطنية ويحفظ الذاكرة الجماعية ويوثقها ويرسي ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان». كما كلف هذا القانون هيئة الحقيقة والكرامة بالاشراف على كامل مسار العدالة الانتقالية وأوكل لها عدة مهام للغرض. نجاح جزئي يرى الملاحظون أن العدالة الانتقالية على معنى هذا الفصل تحققت في جانب منها لكن لم تتحقق في الجانب الأهم وهو « المصالحة الوطنية». فالهيئة عملت طيلة السنوات الماضية فقط وبصفة نسبية على تنفيذ الجزء الاول مما نص عليه هذا الفصل الاول من قانون 2013 وهو تحقيق جملة من الآليات التي أدت لكشف وفهم البعض من ماضي انتهاكات حقوق الانسان من خلال الاستماع إلى الضحايا وإلى المسؤولين عنها ومن خلال الاطلاع على عديد ملفات الشكاوى المقدمة لها وتوثيق ذلك وهو ما مكن من تكوين أرشيف في الشهادات التي وقع الادلاء بها.ويعتبر المراقبون أن هذا التمشي لم يكن بالوجه الكافي والمطلوب بل كانت له طبيعة انتقائية نسبيا وكان أيضا حسب رأيهم يهدف إلى التشهير ببعض المتورطين في الانتهاكات وسط أجواء مشحونة لا يمكن ان تشجع على تحقيق المصالحة. فيما ذهب آخرون الى اتهام الهيئة بمحاولة «التشفي» من البعض أو من فئة سياسية معينة وباعتمادها على اساليب غير قانونية في عملها ابرزها «إعادة المحاكمات» التي يمنعها القانون وانتقاء «الجلادين». أجواء مشحونة رغم أن العدالة الانتقالية نظمها قانون أساسي ورغم ان المشرف عليه كانت هيئة صدر في شأنها أيضا قانون ينظم هيكلتها وسير عملها ووقع انتخاب اعضائها من المجلس التشريعي (المجلس الوطني التأسيسي) في إطار الشفافية ووقع تكليفهم وتكليف الرئيسة بصفة رسمية إلا أن ذلك لم يكن كافيا لتنال الهيئة في ما بعد ثقة المعنيين بالعدالة الانتقالية وثقة السلطات. وكانت خاصة الطبيعة غير التوافقية (بين الاطراف السياسية) لرئيستها سببا بارزا لحصول أجواء مشحونة وحالة من الاحتقان رافقت ملف العدالة الانتقالية ورافقت عمل الهيئة. وتفاقم الوضع ايضا بسبب الخلافات الساخنة التي حصلت بين أعضاء الهيئة انفسهم خاصة بين البعض منهم والرئيسة، وايضا بسبب الازمة التي تسبب فيها التمديد لعمل الهيئة رغم انتهاء عهدتها القانونية (4 سنوات). غياب المصالحة الشاملة لم ينتهي عمل الهيئة في مجال العدالة الانتقالية بتحقيق ما نص عليه قانون 2013 وهو تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة. فما خصل في المجال السياسي من مصالحة سياسية لم يكن نتيجة مسار العدالة الانتقالية بل نتيجة توافقات بين الفرقاء السياسيين حول التخلي على قانون العزل السياسي. كما ان المصالحة الحاصلة في المجال الاداري تمت بمقتضى نص قانوني منفرد فيما تواصل غياب المصالحة الاقتصادية والمصالحة في المجال المالي وايضا المصالحة الاجتماعية بين ضحايا الانتهاكات والاستبداد من جهة والمسؤولين عن تلك الانتهاكات من جهة اخرى. حيث لاتزال بعض المخاطر في هذا المجال قائمة على غرار رغبة البعض في «الانتقام» وتمسكهم بعدم الصفح وبعدم المصالحة مع «جلاديهم» وهو ما كان بامكان الهيئة القيام به خلال فترة عملها وهو ما سيحول دون طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة كما حصل في التجارب الناجحة للعدالة الانتقالية.. أي نهاية؟ كل ذلك افقد الثقة في عمل الهيئة وفي مسار العدالة الانتقالية خصوصا انه بقي مبتورا في جزء كبير منه ليبقى التساؤل الأهم حول الطريقة التي سينتهي بها هذا المسار بصفة باتة حتى يمكن القول ان تونس خاضت تجربة ناجحة في مجال العدالة الانتقالية: هل باللجوء إلى مسار جديد للعدالة الانتقالية يكون سريعا ويحقق المصالحة الشاملة دون تعقيدات قانونية وادارية على غرار ما اقترحه رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي حول اصدار «عفو عام» أم بمواصلة المسار استنادا إلى ما حققته هيئة الحقيقة والكرامة الى حد الآن وهو ما سبق ان عبر عنه رئيس الحكومة يوسف الشاهد.