قضى الشاعر والكاتب المسرحي سبعة وثلاثين عاما من عمره مديرا لدار ثقافة ولم تمنعه المسؤولية الإدارية من الإنتاج الشعري والمسرحي والموسيقي . تونس «الشروق»: الشاعر محمد عمار شعابنية من أبرز شعراء السبعينات شكّل مع سالم الشعباني وأحمد مختار الهادي تيارا أدبيا عرف بأدب المناجم وكان هذا التيار لافتا في الأدب التونسي والمسرح في السبعينات . كيف يرى شعابنية ما يحدث في تونس اليوم على المستوى الأدبي والثقافي ؟ من هنا كان منطلق الحوار مع الشروق»: كيف ترى حصيلة ثماني سنوات من « الثورة « في المستوى الثقافي خاصة ؟ إن إفلاس جل إن لم يكن كل المؤسسات الصناعية والاقتصادية وهروب بعضها إلى بلدان أخرى وتفاقم البطالة وتدهور الطاقة الشرائية وترهل المنظومة الصحية وتأزم الأوضاع التعليمية وانتشار شبكات التهريب وتقزيم الثقافة وتواتر الاعتصامات وتقلص الإنتاج وتغوّل الإرهاب هو حصيلة ثماني سنوات من ثورة « البرويطة « التي « برْوطت « البلاد والعباد..وأنا إذ أنظر إلى ما حدث من زاوية الثقافة وأرى أن الظروف غير سانحة لإقدامي على نشر إحدى عشر مخطوطا من كتبي أدرك أن سوق الثقافة قد كسد رغم محاولات تنويع البرامج الإبداعية وإبرازها من طرف وزارة الشؤون الثقافية التي لا تتجاوز نسبة ميزانيتها لسنة 2019 ما قيمته 0،73 من ميزانية الدولة ولم ترتفع قيمتها عن 300،146 مليون دينار أي أن مناب كل مواطن تونسي منها يصل إلى 25012 مليما.. ورغم هذا المشهد القاتم الذي لا أنتظر تواصله في البلاد أتطلع إلى ومضة نور تكنس الظلام وتزرع الأمل في النفوس لتخطي هذه المرحلة الصعبة التي يجب أن يوضع حدّ لها . قضيت حوالي ثلثي عمرك مديرا لدار الثقافة كيف ترى أداء دور الثقافة اليوم في ظل التوقيت الجديد؟ اشتغلت مدير دار ثقافة طيلة سبع وثلاثين سنة ولم يكن من المتيسّر تعيين أكثر من أصابع اليد من زملائي في خطط رؤساء مصالح بالمندوبيات الجهوية للثقافة أما مديرو دور الثقافة الذين قضوا بعد سنة 2011 قرابة عشرين سنة في العمل فقد تم ترقية أكثر من سبعين في المائة منهم ليصبحوا رؤساء مصالح ومنهم من ارتقى إلى رتبة كاهية مدير أو مدير وحتى مدير عام ، وهذا من حقهم لأنهم عانوا مثلنا ويلات تنشيطية خانقة قبل زوال نظام بن علي. ويذكر كل زملائي القدامى القصيدة المرتجلة المدوية التي فضحتُ فيها الأوضاع المزرية لدور الثقافة في أكتوبر 1976 أمام الأستاذ الشاذلي القليبي وزير الثقافة في ذلك الوقت بمناسبة اختتام ملتقى مديري دور الثقافة حيث قلت فيها: فدُورنا في مطلب وجيزِ في حاجة كبرى إلى التجهيز وعندما يؤمّها الزّوارُ يدهشهم في جوفها افتقارُ لوحدة صوتيّة جديدهْ أو كتب قيّمة مفيده ونحن فيها كالهنود الحُمرِ مرابطين رغم عسْر الأمْر ولكننا كنا تصنع الثقافة وتهيئ الظروف للإبداع فيها ببعث نوادي الأدب والمسرح والفنون التشكيلية والموسيقى ونحتضن نوادي السينما وسينما الهواة وتقوم ببعث التظاهرات والمهرجانات ، ولا يوجد بأغلب الدور أكثر من مدير وعون تنظيف يقومان بكل الأعمال .. وأنا أرى اليوم أن الدار التي كنت أسيّرها تتوفر على مدير ومنشطتين وكاتب ثقافي وعون إعلامية ومستكتبة وعوني أشغال (تقاعد أحدهما)... والذي يؤسفني أن جميع دور الثقافة تقوم بأعمال إدارية لا تنشيطية ولا تشتغل يومي السبت والأحد، فماذا يعني هذا ، وقد هجرها الرواد نتيجة لما هو حاصل.. فمن المتسبب في موت الثقافة في المدن والقرى .. الوزارة أم موظفو دور الثقافة أو المواطنون الذين أغلقت في وجوههم أبواب الأنشطة خلال أوقات راحاتهم من العمل والدراسة؟ الجواب هو إن ما يطبق اليوم في دور الثقافة جريمة وخيانة عظمى. حل اللجان الثقافية هل كان نكبة على العمل الثقافي؟ كانت اللجان الثقافية صمامات آمان الأنشطة الثقافية بهيئاتها التي تتكون من رجال أدب وفكر وفن في أغلب تشكيلاتها وبأرصدة مالية تتكوّن منها ميزانياتها المتواضعة والتي تسمح لها بتمكين أصحاب العروض الثقافية ومؤثثي التظاهرات الأدبية والفكرية من المنح المالية المقررة لفائدتهم مقابل ما قدموه إثر إنجازه .. وعند انتصاب حكومة الترويكا تفتقت عبقرية أحد وزراء الثقافة على إبداع لا ينسى تمثل في إعلانه عن حل اللجان الثقافية بتعلة سوء تصرفها في أموال الدولة وكأنها كانت تنام وتصحو على مئات الآلاف من الدينارات .. لم يكن ذلك الشخص يعلم أن مديري دور الثقافة كانوا يقتنون أحيانا بعض المشروبات للمشاركين في لقاءات تنشيطية من جيوبهم الخاصة .. لم يكن يعلم أن المرحوم يوسف ماجدي مدير دار الثقافة بالرديف قد أنفق ستمائة دينار من جيبه على نشاط بمؤسسته في انتظار حصوله على المنحة المالية المتأخرة لذلك.. لم يكن يعلم أن عبد النبي المحمدي مدير دار الثقافة بسبيبة قد أعار المندوبية الجهوية بالقصرين ستة عشر ألف دينار عندما تأخرت الاعتمادات المرصودة لها من الوزارة وحل موعد تظاهرة ثقافية كبرى .. لذلك ابتلعت الرمال الماء وجاع الإبداع والمبدعون وحلت النكبة التي أضرت بالمؤسسات الثقافية والمتعاملين معها ..غير أن المأساة تكمن اليوم في الصمت عما حدث لأن وزارة الشؤون الثقافية لم تعجل بحل الأزمة الذي لن يتمثل في غير إجراء من إجراءين: إما إرجاع اللجان الثقافية بصلاحيات جديدة واسعة. أو بعث مجالس تنشيط تتكوّن من موظفين ثقافيين وناشطين في المجالات الفنية والفكرية والأدبية مستقلين عن أية سلطة باستثناء إشراف المندوبين الجهويين للثقافة وتكون لها ميزانيات تشارك في تمويلها الوزارة والبلديات والمؤسسات المنتجة بمناطقها وجهاتها وتخضع لرقابة المحاسبات المالية. تيار الشعر المنجمي كان سابقا لانتفاضة الحوض المنجمي بحوالي ثلاثين عاما لماذا أنطفأ هذا التيار؟ عرف اتجاه الشعر المنجمي منذ أواسط ستينيات القرن الماضي وكان توجهه نضاليا للتطرق إلى شجون وهموم المنجميين ففضح الممارسات السيئة التي تسببت لهم في أضرار كثيرة وتحدث عن المخاطر والمتاعب التي كانوا يعانون منها كانهيارات الأنفاق التي كانت تعجن أجسامهم وتبتلي من ينجو منهم بسقوط بدني مريع، وكشف عن الأجور الضئيلة والأشغال المضنية ، إلا أن تلك الأوضاع قد زالت بالانتقال من العمل داخل الدواميس إلى الاستغلال السطحي وبارتفاع الأجور والحصول على منح مختلفة وإذا كان كبيرنا أحمد المختار الهادي ورفيقنا محمد الطاهر سودة قد توفيا رحمهما الله ولا يمكن مطالبتهما بالكتابة من داخل القبر فأنا وسالم الشعباني وحسن بن عبد الله ما زلنا على قيد الحياة إلى ما ميقات لا يعلمه إلا الله ، لذلك فقد تبيّن لي أن الشعر المنجمي ما زال لي فيه ما أقول بتوجّه جديد ورؤيا مغايرة للسائد وقد كتبت العديد من القصائد في السنوات الأخيرة إلى الآن مثل «المناجم» و»قصيدة المناجم» التي تداولت عليها الشفاه والأعين بالقراءات و»دبناميت منجمي» التي نشرت بمجلة الحياة الثقافية لشهر نوفمبر 2018 وللكتابة بقية . عمار شعابنية سالم الشعباني أحمد مختار الهادي سويلمي بوجمعة أصوات ظهرت في الحوض المنجمي هل هناك أصوات أخرى اليوم لافتة؟ لم يتوقف الدفق رغم تباطؤه فهناك اليوم في الحوض المنجمي أصوات جديدة كالشعراء سالم شرفي والمولدي شعباني ومنير عليمي فضلا عن الدكتور الشاعر والناقد سمير السحيمي، إلا أنني أؤكد على أن فترة ما بعد 2010 قد تسببت في نشر العقم فأصبحت ولادة كاتب أو شاعر من الحالات الصعبة. كتبت مسرحيات باللغة العربية واللهجة العامية اليوم المسرح التونسي بلا كتاب لماذا؟ لقد انتشر ما يسمى مسرح الشخص الواحد الذي يكتبه ويخرجه ويمثله وربما يبيع تذاكره منتجه.أما المسرح الذي تقدمه الفرق أو الشركات المسرحية ففيه اختلاف بين الكاتب ومدير الهيكل.. فالأول يرتكز على الأحداث لكتابة نصه والثاني ينطلق من الفكرة التي تحتمل تأويلات كثيرة قد تبعدها عن فنيات العمل.