رغم أن الإضراب حق يضمنه الدستور إلا أن ما يحدث اليوم في المؤسسات التعليمية التونسية من الابتدائي إلى العالي من تعليق للدروس، وغيابات من التلاميذ والأساتذة وتلويح بإضرابات قادمة، أصبح مخيفا. فأي تحصيل لتلاميذنا في هذه السنة الدراسية وأي قيمة لشهائد التعليم في تونس. تونس الشروق: يتواصل الضغط النفسي الذي يعيشه التلاميذ والطلبة بسبب مواصلة الأساتذة التلويح بإلاضرابات. فكل الأوراق موضوعة في جدول الصراع بين النقابات والوزارة : تلويح بقطع الدروس وآخر بعدم إجراء الامتحانات، وثالث بإضرابات جديدة.. وقد يصل الأمر إلى سنة بيضاء. لكن الواضح اليوم أن السنة البيضاء لن تكون نتيجة إمكانية القيام بإضرابات جديدة وعدم إجراء الامتحانات فقط، فما يعيشه التلاميذ من غياب عن الدروس في أغلب فترات هذه السنة الدراسية، وحصيلة نسبة الساعات الفعلية التي تلقوها في المؤسسات التعليمية مقارنة بما عليهم تلقيه، سيضعنا أمام نتيجة حتمية وهي أن هذه السنة هي فعلا بيضاء حتى وإن تم إجراء الامتحانات. ضياع شامل تبدو الوضعية في مقاعد المؤسسات التربوية والتعليمية التونسية من الابتدائي الى الإعدادي والثانوي والجامعي، خطيرة. فالتجاذبات بين النقابات والوزارات بلغت مرحلة لي الأذرع على حساب مصلحة التلميذ والطالب وعلى حساب مصلحة التعليم الشهائد. ويشير الخبراء والمختصون إلى أن الخاسر الأكبر هو الأجيال القادمة. ويرى رئيس الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية الدكتور محمد بن فاطمة أن ما يحصل من إهدار لساعات الدراسة سيجعل التحصيل الدراسي سيئا، وحتى وإن اجريت الامتحانات فإن المتمدرسين غير مستعدين نفسيا لإجراء الامتحانات. وأن الأزمة أعمق من مجرد إجراء الامتحانات فالخسارة حاصلة في الحالتين. وقال :"إن اجريت الامتحانات فالخسارة واقعة باعتبار أن ما تلقاه التلميذ ليس هو المطلوب في دراسة العام الدراسي كاملا. وإن لم تجر الامتحانات فسيكون هذا خسارة لوقت وأعصاب وأموال الأولياء والتلاميذ." واعتبر أن الأزمة تتعلق بقيمة التحصيل العلمي ومستوى الشهائد وهو ما يحيل إلى أزمة عامة للتعليم في تونس. وأشار إلى رؤية واقتراحات من الائتلاف لإصلاح أزمة التعليم في تونس وللإصلاح التربوي في العمق. وبين أن أزمة الامتحانات هذا العام قد تحل ولكن الخطر في حقيقة المستوى التعليمي المتدني الذي سيكون نتيجة لهذه الأزمة وهو ما يجب البحث فيه، والبحث في إمكانية تكرر هذه التجاذبات بين النقابات والوزارة في السنوات القادمة. "بطبيعة الحال مستوى الشهادة التونسية مهدد فحتى وإن نجح التلميذ أو الطالب لن نضمن أنه التعليم الحقيقي او العادي الذي كان من المفروض تلقيه. وهو ما يضعف بطبيعة الحال من قيمة الشهائد العلمية. ولا ننسى أن التلاميذ لم يعودوا مستعدين معنويا لإعطاء ما عندهم حتى وإن أجروا امتحاناتهم." هذا ما أضافه الدكتور بن فاطمة متسائلا حول مصير تلاميذ البكالوريا وغيرهم هذا العام. مستقبل ضبابي تأثر التعليم ومستوى الشهادات العلمية والتحصيل الدراسي بسبب التجاذبات الحاصلة هي مسألة كان قد أشار إليها الباحث في علم الاجتماع طارق بلحاج محمد حيث ذكر بأنه من المهم القيام بالواجبات في كل القطاعات مع المطالبة بالحقوق وأنه لا يجب الإضرار بالقطاعات. وقال :"إنما الحصول على الحقوق يكون في أحسن الأحوال متزامنا مع القيام بالواجبات، إن لم يكن في الغالب متأخرا عنها. لكن ما هو قائم الآن (مع بعض التعميم والفروقات) أن الفئوية والأنانية والمطلبية هي العناصر الطاغية بشكل يهدد السير العادي للمرفق العام والسير الطبيعي لنسق الإنتاج. كما أشار إلى الضرر الذي يلحق قطاعات حساسة مثل التعليم بتتالي الإضرابات. وحذر من ضبابية مستقبل الأجيال القادمة معتبرا أن كل المؤشرات تدل على أن المستقبل سيكون صعبا، وينتظر الدولةَ والمواطنين الكثير من المصاعب في هذا المناخ الذي يتسم بالانفلات وقلة الانضباط والفوضى. هزيلة بالضرورة السنة الدراسية ستكون نتائجها هزيلة في كل الأحوال بإجماع من الخبراء وهو ما أكده الخبراء في الشأن التربوي فالإضرابات المتواصلة من الأساتذة والتلاميذ ستزيد من اهتراء المنظومة التربوية التي تعاني عددا من الثغرات. ويشير الأولياء والمختصون إلى أن حصيلة السنة الدراسية ستكون هزيلة مهما كانت الحلول بين الأطراف المتجاذبة. ورغم إمكانية العودة إلى الدروس وإجراء الامتحانات إلا أن عملية بسيطة ستشير إلى أنه لا يمكن تدارك الوقت الضائع ولا إرجاع "صفو" الحياة المدرسية في الأقسام وضمان استيعاب التلاميذ للدروس وإنهاء المنهج التربوي. ويسجل نظام التعليم في تونس ساعات تدريس أقل مقارنة مع المعدلات العالمية التي تصل الى نحو 200 ساعة دراسة ومع ذلك فإن التلميذ التونسي الاكثر ارهاقا بسبب توزيع الزمن المدرسي وتزايد الاضرابات والتجاذبات. وهو ما يعمق في خسارة التلاميذ للزمن الدراسي ويزيد من عدد الساعات المهدورة، وبالتالي سيزيد في ضبابية الحصيلة الدراسية. سليم قاسم (رئيس جمعية جودة التعليم) .. شهائد لا يقابلها رصيد حقيقي هل تعتقدون أن قيمة الشهادة التونسية والتحصيل العلمي ستتأثر بالإضرابات؟ إنّ الحديث عن قيمة الشّهائد العلميّة من المفترض أن يقودنا مباشرة إلى الحديث عن جودة مخرجات نظم التّعليم والتّكوين، أي عن مدى اكتساب المتعلّمين لمعارف ومهارات وكفايات محدّدة تمكّنهم من مواصلة تعلّمهم النّظاميّ أو الذّاتي من ناحية، ومن الاندماج في بيئتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والإنسانيّة من ناحية أخرى. فقيمة الشّهادة العلميّة إذن تتحدّد بقيمة من يحملها وليس العكس، وهذا ما يعجز الكثيرون اليوم في مجتمعنا عن استيعابه. لقد أضاع مجتمعنا توازنه منذ سنوات عديدة حتّى صارت قيمة الفرد تتحدّد بدرجة كبيرة بالشّهادة العلميّة التي يحملها، بقطع النّظر عن مستواه المعرفيّ والمهاري والإنسانيّ، ولذلك صارت الشّهادة غاية في حدّ ذاتها يلهث الجميع وراء تحصيلها بكلّ الوسائل المشروعة وغير المشروعة، ولعلّ أكبر دليل على هذا الاختلال أنّ النّجاح الآليّ خلال سنة دراسيّة فارطة أفسدتها الإضرابات لم يزعج أحدا تقريبا، رغم أنّ الجميع يعلم تماما أنّ شهائد النّجاح التي نالها جميع التّلاميذ لم يكن لها ما يقابلها فعليّا في رصيد مكتسباتهم، أمّا هذه السّنة، وأمام تكرار سيناريو الإضرابات المقيت والتّلويح بإمكانيّة سنة بيضاء، أي سنة لا تختم بشهادة النجاح، فإنّنا نرى التّعبئة في صفوف التّلاميذ والأولياء على أشدّها. لقد صارت شهائدنا تماما كالعملة الورقيّة التي تطبع بلا حساب ودون أن يكون لها ما يقابلها فعليّا من احتياطيّ الذّهب أو من القدرة على الإنتاج وخلق الثّروة، وبذلك فإنّها فقدت الكثير من قيمتها، ولكنّ الغالبيّة العظمى لا تزال تحاول تحصيلها لأنّها لم تستوعب بعد حقيقة التّغيير الجذريّ الذي حصل. من المسؤول عما يحصل في نظركم ؟ إن ما يحصل وطنيّا من اختلال، جزء هام منه يعود إلى عدم الاستقرار بسبب كثرة الإضرابات، لا ينبغي أن يحجب عنّا أنّنا أمام ظاهرة دوليّة شاملة: فكبريات المؤسّسات الاقتصاديّة وحتّى الجامعات لم تعد تنظر اليوم في شهائد المترشّح بل في مهاراته وقدراته، حتّى أنّ الطّالب صار قادرا على التّسجيل في شهادة الماجستير في الولايات المتّحدة مثلا دون أن يكون حاملا للإجازة متى برهن عن أهليّته لذلك. ومن ناحية أخرى، برزت جهات إشهاد أخرى غير المدارس والكلّيّات. وهي جهات تتميّز بالتّخصّص والمصداقيّة العالية: فمراكز العمل أو الدّراسة لم تعد تطلب شهادة علميّة في اللّغة الانجليزيّة مثلا وإن كانت مسلّمة من أرقى الجامعات بل شهادة "التّوفل" المعترف بها دوليّا والتي يمكن الحصول عليها بقطع النّظر عن عوامل السّنّ والمستوى الّعليميّ والانتماء الجغرافيّ، ونفس الشّيء ينطبق على معظم التّخصّصات الأخرى. نحن إذن أمام تحوّل دوليّ لا بدّ من إدراك أبعاده والتّأقلم السّريع معه لأنّه يمكن أن يمثّل فرصة حقيقيّة أمام منظومتنا التّربويّة، أمّا المقولات من نوع "البكالوريا التّونسيّة لم يعد معترفا بها"، فهي مقولات سطحيّة ومحبطة وخاطئة يتناقلها غير المختصّين، فلكلّ مؤسّسة علميّة أو اقتصاديّة معايير انتدابها، ولشبابنا من التّلاميذ والطّلبة فرصتهم الكاملة للالتحاق بها، ولا أدلّ على ذلك من النّجاحات الباهرة التي يحقّقونها في كلّ المجالات وفي مختلف الدّول.