تكيّف جودة الغذاء صحّة الإنسان. فنحن نعلم أنّ مصدر كلّ عنصر من عناصر جسمنا سواء كان جزيئة أو خليّة أو مادّة عضويّة هو المحيط الذي نتغذّى منه ونستنشق هواءه ونشرب ماءه. منذ القديم والإنسان يفعل فعله في المحيط ولكن وعيه بالانعكاسات التي قد تنجرّ عن هذا النشاط جاء متأخّرا. فلقد تفطّن الإنسان إلى هذا التلوّث بالخصوص عندما انعكس على صحّته سلبا سواء ذلك الناتج عن التلوّث الكيميائي أو الإشعاعي للغذاء أو عن تلوّث الهواء. مع ظهور الفلاحة العصريّة الكيميائيّة أصبح غذاءنا معرّضا للتلوّث بكلّ أنواع المواد التي تستعملها هذه الفلاحة حيث تترسّب في المواد الغذائيّة وتصل إلى موائدنا وتتسبّب في أعراض مرضيّة أثبتتها البحوث والدّراسات العلميّة. ظهرت في الأثناء عادات غذائيّة معاصرة تشجّع على الأكلات السريعة والغنيّة باللّحوم والشحوم وبرزت شبكات التوزيع العالميّة والمعقّدة والمتباعدة بحيث يمكن للغذاء أن يقطع آلاف الكيلومترات قبل أن يصل إلى المستهلك وشيئا فشيئا بدأت الدعاية للغذاء الصناعي المتطابق تزاحم العادات الغذائيّة السليمة وتشجّع على استهلاك المواد الغذائيّة الجاهزة للاستهلاك وشبه المطبوخة. ظهرت احتكارات عالميّة للصناعة الغذائيّة. فعلى سبيل المثال تحتكر شركتا Ross Breeders وCobb لوحدهما 80 بالمائة من السوق العالميّة للدجاج المخصّص للتفريخ. بفعل تطوّر الصناعات الغذائيّة يمكن لمواطن أفريقي أو آسيوي أن يتغذّى بنفس مسحوق الحليب الذي يستهلكه مواطن في نيويورك أو طوكيو. استدعى تطوّر الصناعة الغذائيّة اللّجوء إلى المواد الحافظة والمصبّرة وأدمجت في الأطعمة مواد كيميائيّة غيّرت من مذاق الطعام ولونه. كما استعملت لنفس الغرض تقنيات جديدة من بينها خضوع المواد الغذائيّة للتشعيع irradiation . أصبح الغذاء مصدرا للأمراض سواء منها حالات التسمّم الحادّ والمزمن أو الحساسيّة أو أمراض السرطان والأمراض العصبيّة وغيرها من الأمراض ممّا دفع عددا من العلماء والمختصّين إلى التنبيه من هذه المخاطر. فلقد أقرّ العلماء والمختصّون الموقّعون على ما أصبح يُعرف ب"نداء باريس" بأنّ 80% من حالات السرطان مصدرها تلوّث الغذاء والهواء والماء. فإذا كان تلوّث الهواء بارزا للعيان فإنّ ما يميّز تلوّث الغذاء أنّه يقع بكمّيّات صغيرة وبصفة مستمرّة بحيث تندمج المواد السامّة في أجسادنا وتتراكم محدثة أمراضا تطال كلّ الأجهزة والأعضاء. "صناعة السرطان" مصطلح استعمله بعض الباحثين والمهتمّين بشؤون البيئة وعلاقتها بالصحّة لكنّه لا يروق لغالبية المشرفين على قطاع الصناعة إذ يرون فيه مبالغة واتّهاما غير مبرّر. فإذا استثنينا بعض الإجراءات المحدودة يرفض هؤلاء مراجعة أيّ نشاط صناعي. اقتصاد السرطان هو مجموعة من شبكات من القطاعات والأنشطة الخاضعة لتأثير اللّوبيات وأصحاب القرار. الاتّجاه الغالب هو تشخيص المخاطر وربطها بتهيّئ وراثي أو تصرّف فردي خاصّ وصولا في بعض الحالات إلى تجريم الأفراد واعتبارهم مسؤولين عمّا حلّ بهم من مكروه مع التّغاضي عن العيوب الهيكليّة للمجتمع ثمّ يأتي الطب الرّسمي ليقوم بتبرير "علمي" للتوجّهات الاقتصاديّة السياسيّة.