في «سلسلة الذاكرة والسياسي» صدر أخيرا كتاب هام للباحث والحقوقي النشيط الأستاذ فوزي الصدقاوي... وفوزي الصدقاوي، هو كاتب مجدّ، وابن مناضل جريء اشتهر بنظافة اليد، وكانت له مشاركات هامة في الحركة الوطنية في جهة بنزرت أيام: محمد الحبيب بوقطفة، وحسن النوري، ومحمد دربال، وحمودة بوقطفة وأحمد بن صابر وأضرابهم. والكاتب من خلال تصفّح أثره، ينقلكم الى جهة كان لها نصيب الأسد في النضال الوطني، ولكن الأسماع تجاهلت مواقفها، ولم تنصت الى نداءاتها، وهي الغيورة على «الدستور» وعلى (البيئة النقابية) منذ عهد محمد علي الحامي عام 1924، وتأسيس (الحزب الدستوري) سنة 1920م. ويشدّكم الكتاب الى الموضوعية العلمية في البحث التاريخي والى الذاكرة الجماعية من أفواه رجال ممّن بذلوا النّفس والنّفيس من أجل التحرّر والانعتاق، والى الحركتين: الوطنية التونسية والنقابية في مفاصل الجغرافيا، والى جهة بنزرت في التفكير الاستراتيجي للدول الاستعمارية، والى تطور الوجود العسكري ببنزرت، والى التطورات الديمغرافية والعمرانية... ويقول المؤلف في هذا الشأن: «... كان عدد سكان مدينة بنزرت قد بلغ سنة 1887 نحو 5712 نسمة، غير أن المشاريع الصناعية والعسكرية التي أقيمت في المراقبة المدنية حفّزت الفرنسيين للقدوم إليها ليبلغ عددهم سنة 1901 نحو 3559 فرنسيا، بينما لم يكن عددههم يتجاوز ال300 فرنسي سنة 1881... وخلال العقود الأربعة الأولى من الحماية الفرنسية زاد عدد الأوروبيين ليبلغ 17242 نسمة سنة 1921 وبذلك صارت المراقبة المدنية ببنزرت تقع في المرتبة الثانية. وفي الكتاب ينقلكم فوزي الصدقاوي الى سؤال الهوية من خلال المساجد والزوايا في جهة بنزرت، والى التناقضات الاقتصادية والمجتمعية الحادة، التي هيّأت لتكريس ثنائية حضارية متقابلة، والى إضرابات بنزرت عام 1924، والى ما رسخ في وعي العمال التونسيين من خلال أولى تجاربهم التضامنية والى (مشروع العمال النقابي) والى تماسك الوحدات النقابية، وتأسيس أول اتحاد محلي للنقابات التونسية في مدينة بنزرت في عهد محمد الخميري، وليكون هذا النقابي الكبير أول كاتب عام له. وأثنى فوزي الصدقاوي على عدد كبير من المناضلين في جهة بنزرت منهم: صالح عمار، والطاهر الزاوي، والحبيب طليبة، وأحمد بن صابر، ومصطفى القاسمي، والحبيب حنيني، وقدور الصدقاوي ويقول عنهم: هؤلاء خدموا القضية الوطنية وكانوا موضع اعتزاز الجميع بهم، وسوف يبقون خالدين في مسارات التاريخ الوطني. أما هذا «الأثر التاريخي» فقد أهداه الى أرواح شهداء تونس قائلا عنهم: «... الى من بجودهم كان للوطن وجود». ومن خلال تصفّحكم للكتاب، ترون أيضا حكايات عديدة وأبطالا مارسوا النضال، وأصواتا كانت لها قوة اقتراح لمداخل مهمة وتؤسّس لمقاربات جديدة في كتابة تاريخ الحركة الوطنية. ونظرة الصدقاوي في هذا المجال تتفق مع نظراتي في ما كنت أشرت إليه في مقال لي شهير كتبته في عام 1978م في صحيفة «الرأي» بعنوان «نحن والتاريخ» وكنت وقّعته ب«خلدون». وفي النهاية أقول: «إن كتاب الصدقاوي فيه زاد معرفي هام وهو يسهم في إنارة الرأي العام، وينقل ما يستدعيه الحقّ أن يقال في الأطراف الهندسية الفاعلة في التاريخ وفي الميولات الفكرية والنزوعات الخاصة. ويبقى أثر الصدقاوي خالدا وخيرشاهد على ما كتب حول الماضي... وبلحظة الماضي عن الحقائق في التاريخ بوصفها واقعا حيّا يسهم في فتح ملفات ظلّت ذاكرة الجهة تلح في طرحها على التاريخ السياسي العام.