يبدو ان السلطات الرسمية استفاقت من غفوتها المطولة تجاه أهمية السياحة البديلة بإعلان وزير السياحة روني الطرابلسي، الخميس، زغوان عاصمة للسياحة البديلة. تونس(الشروق) للخبر وجهان وجه وطني سينقذ القطاع من موسميّته ووجه جهوي سيثمّن موارد مهدورة كان يمكن ان تنقذ الجهات منذ سنوات من ازمة الفقر والتهميش وغياب التنمية العادلة. فهل يكون قرار روني الطرابلسي فاتحة استغلال لهذه الموارد التنموية المهدورة؟ الإجابة بسيطة: تأخر استغلال هذه الموارد بسبب غياب الإرادة الرسمية لتثمينها وهذا ما عثرنا عليه في رحلة بحثنا عن كنوز السياحة البديلة في الجهات. ومنطلقنا كان منطقة البلالمة، معتمدية غزالة ببنزرت، حيث تزخر الجهة، ذات الخصوصية الاقتصادية والاجتماعية المنهكة بما يمكن ان يخرج الناس من فقرها وينقذ اطفالها وشبابها من ظاهرة الانتحار المنتشرة في غزالة لو انتبهت السلطة الى ضرورة تثمين مواردها السياحية الطبيعية لتغيير المشهد الاقتصادي والاجتماعي لمواطنيها. عجز الدولة لا أحد يصدّق بان الأطفال ينتحرون في مثل هذه المناطق الطبيعية الساحرة في معتمدية غزالة. فمجرّد بحث صغير عبر محرك البحث قوقل حول الانتحار في الجهة سيمنحك أكثر من 20 ألف نتيجة خلال 34 ثانية. السلطات الرسمية ذاتها تعترف بان الوضع الاقتصادي والاجتماعي للأسر في غزالة يجعل الأطفال غير قادرين على تحمّل تلك الأوضاع. ففي جلسة مساءلة في البرلمان وعقب تسجيل نسبة زيادة وطنيا ب 400 بالمئة في نسبة الانتحار في مقارنة ما بين سنتيْ 2014 و2015 (40 حالة مقابل 184 حالة) قالت وزيرة الشباب والمرأة والطفولة والمسنين السابقة سميرة مرعي إن اقبال الأطفال على الانتحار يمثل «طريقة تعبير من هؤلاء عن حالة الياس والإحباط التي تعيشها عائلاتهم جراء الوضع الاقتصادي والاجتماعي وعن احساسهم بأنهم يمثلون عبئا على اوليائهم». وحمّلت مسؤولية تنامي الانتحار في صفوف الأطفال في منطقة العلا في القيروان وفي منطقة غزالة ببنزرت الى «التعاطي العائلي والإعلامي السيئ مع هذه الحالات». وبعيدا عن إدانة الاعلام والعائلات لم تفعل السلطات هنا ما يمكن ان يغيّر المشهد في المنطقة فلا الناس تغيّرت أوضاعها ولا الأطفال تحسّن شعورهم بأنهم ليسوا عبئا على أهاليهم خاصة مع تهاوي المقدرة الشرائية منذ عام 2015 ولا الدولة اهتدت إلى خلق الثروة في المنطقة وهي الزاخرة بما منحه الله لطبيعتها من جمال باستطاعته تحويلها الى قطب سياحي جاذب لمحبّي السياحة الايكولوجية. ثروة تنمويّة قال بلال البلومي، معطّل عن العمل، وهو ينزل معنا سفح الجبل بعد ان قطعنا حوالي أربعة كيلومتر مشيا على الاقدام في طريق جبلية جميلة تناثرت على جنباتها مساكن قليلة اطلّ منها أطفال ونساء يلقون تحيّة الصباح الهادئة كهدوء اعصابهم امام مجمل الصعوبات التي يتعايشون معها منذ سنوات إنّ «الناس هنا بدؤوا يفقدون الامل في تغيير أوضاعهم». وأضاف وهو يحاول مساعدتنا على تحاشي الانزلاق في ذلك المنحدر الصعب في اتجاه شلاّلات الخلوة في البلالمة»لا أمل لخرّيج الجامعة اليوم بانه سيحصل على عمل بعد أن توّج دراسته بشهادة عليا فماذا عن الشاب الذي لا يحمل شهادة. الوضع صعب جدّا لذلك يمضي الشباب نحو حلول بديلة كالتفكير في الهجرة أيا كانت طريقتها». يصمت مرافقنا طويلا وهو يلقي بنظرة على التضاريس المتنوعة قبالتنا...جبال ومنحدرات لا يستطيع المرور منها الاّ من خبر الطريق. مشهد مغر للراغبين في الاستكشاف. ورغم صعوبة تلك التضاريس يمكن ان يتراءى لك أصحاب المواشي من كبار السن يجلسون في هدوء على شفة منحدر يتبعون مواشيهم وابقارهم القليلة غير عابئين بصعوبة المكان. مناظر طبيعية يصعب وصفها وهي تلك التي نرى مناطق شبيهة لها محورا لأفلام وثائقية تمرّر عبر قنوات عالمية ويأتيها الزوّار بكثافة من كل أنحاء العالم. عند اخر المنحدر ظهرت بناية غير مكتملة «وهي ربّما مشروع دار ضيافة أراد أحدهم بعثها لحث المستكشفين من تونسيين وأجانب على زيارة المكان واستكشافه الا ان صعوبة التضاريس قد تكون حالت دون استكمال هذا المشروع» على حد قول رضا البلّومي كاتب عام مساعد جمعيّة حلم البلالمة والذي كان يرافقنا في رحلتنا الاستكشافية. بدوره يتساءل مرافقنا بلال بعد صمته الطويل «ما ضرّ السلطات لو جعلت من هذا المنحدر سلالم يمكن المرور منها للزوّار ويمكنها الاعتماد على عمّال الحضائر في إقامة هذه السلالم بل يمكنها تشغيل أبناء المنطقة لإقامة هذه السلالم حتّى تتعزز قدرات المنطقة على جلب المستكشفين». معالجة الاحباط يتناهى الى مسمعك على بعد حوالي واحد كيلومتر من مشروع دار الضيافة المعطّل صوت الموسيقى الفلكلورية منبعثا من شلالات الخلوة حيث جاء الناس من مناطق كثيرة يستغلون دفءالاحد، الاحد 17 فيفري، للتنزه مع أطفالهم واحبائهم. وللقادمين وجهتان وجهة عبر منطقة البلالمة ووجهة ثانية عبر الطريق الوطنية رقم 7 مرورا بوادي الزيتون. المشهد شبه خيالي في الشلالات على ارتفاع حوالي 30 مترا. باستطاعة هذا المكان ان يكون مركزا استشفائيا فريدا من نوعه ضد الاكتئاب والإحباط. الم تقل الدراسات إنّ نسبة الإحباط في زيادة في البلاد؟ الم يقل رئيس الجمهورية ذاته في ذكرى عيد الاستقلال من عام 2018 ان نسبة المحبطين في تونس ترتفع الى 99 بالمئة؟ الم تأت تونس في المرتبة 111 عالميا في ترتيب تقرير السعادة العالمي لسنة 2018؟ تتدافع الأسئلة في ذهنك وانت تلقي بنظرة مطولة حول الشلالات ومحيطها من الجبال وحول عشرات الزوار المندهشين بروعة المكان المندفعين الى الرقص والفرح على وقع الموسيقى الفلكلورية. هناك ارتفع صوت شاب يغنّي «فِي الغُرْبة وحْدانِي يا لُمِّيمة، هزِّلْها سِلامِي بالله يا طِير، عايِشْ برّانِي والرُّوح غريبة، كلاتِني ليّام وشِبْت صِغِير...». وهي اغنية راب غناها حول وضع المهاجر غير النظامي الفنان ارمستا مع المغنّي «فيت ام سي راي» ولاقت أكثر من 13 مليون مشاهدة في موقع يوتيوب. واستحضار مثل هذه الاغنية في لحظات فرح ليست سوى عنوان لتغلغل الهجرة في أحلام الشباب وسط مجمل تلك الطرقات المبتورة المحيط بمستقبلهم. ففي عام واحد (2018) وصل الى إيطاليا 6 الاف مهاجر غير نظامي قادم من تونس من بينهم 1028 قاصرا دون مرافق وهم إمّا تلاميذ او منقطعون حديثا عن الدراسة و120 طفلا مرفوقا و138 امرأة. فيما القى الامن القبض على 7 الاف مهاجر غير نظامي وأحبط رحلاتهم. تعطيلات بعيدا عن أحلام الهجرة سواء الداخلية او الخارجية اختار منير البلّومي، 26 سنة، بعث مشروع مقهى في المنطقة منذ حوالي سنة. وواجه صعوبات مادية كثيرة بسبب الاقبال الضعيف وذلك بحكم طبيعة المنطقة في تضاريسها وفي الحالة الاجتماعية لسكّانها وهي التي تضم 74 عائلة تقتات من النشاط الفلاحي فالمنطقة تختص في الزراعات الكبرى وزراعة الاعلاف. وهو يعلّق اماله اليوم على رحلات الزوّار الى شلالات الخلوة كي يحسّن من مداخيله ويتجاوز عتبة الصعوبات المادية لمشروعه. يقول ل"الشروق" ان مساعدة المنطقة على استغلال ثرواتها الطبيعية ومخزونها السياحي لتحويلها الى منطقة جاذبة للسيّاح من مختلف المناطق التونسية سيساعده على المحافظة على مشروعه ويفتح باب التشغيل والتنمية في المنطقة. ومثل منير يحلم الكثير من الشباب، في مناطق أخرى كثيرة ذات مخزون سياحي عجيب منحته الطبيعة لتونس دون ان تنتبه اليه السلطات، ان يتحسن أداء السلطات في تلك المناطق فيتم تفعيل مشاريع السياحة البديلة لتكون مصدرا للتنمية وتوفير موارد الرزق في مناطقهم خاصة مع تزايد عدد الشغوفين بهذا النوع من السياحة سواء كانوا تونسيين او أجانب وسهولة الترويج لتلك المناطق عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ورغم اعلان السلطات منذ أكثر من عشر سنوات عن رغبتها في دعم هذه المنتوجات السياحية البديلة، السياحة الجبلية والسياحة العائلية والسياحة الثقافية والسياحة الايكولوجية وغيرها من المنتوجات، الاّ ان المرور نحو تنفيذ تلك المشاريع ظلّ حبيس النيّة فلم يتم احداث قوانين داعمة لهذه المنتوجات السياحية البديلة. وتوقّف الامر عند مبادرات خاصة لشباب وجمعيات، مثل جمعية حلم البلالمة التي رافقناها الى شلالات الخلوة، حاولوا الاستثمار فيما منحته الطبيعة من جمال لمناطقهم. الا ان تلك المبادرات تلاقي بدورها صعوبات عديدة فالشاب امين الزين صاحب مشروع القبّة الايكولوجية بمنطقة صدقة بسليانة حاول الانتحار بداية شهر جانفي بعد ان عمدت السلطات منع الزوّار من الوصول الى مشروعه باعتبار وان المشروع لا يخضع لكراس شروط العمل السياحي. هذا التعجيز القانوني كاد يحرم امين من حياته وحرم اخرين من قبله من استمرار مشاريعهم. يقول امين ل"الشروق" إنّ «ذات الضغوطات التي اجبرته على محاولة الانتحار أجبرت شابة من قبله على غلق مشروعها في عين بوسعديّة وان شابة أخرى تلاقي تعطيلات منذ سنتين لإقامة مشروع لها في سيدي حمادة فيما يتعرّض شاب اخر للتضييقات على مشروعه في منطقة سيدي عامر ليكتفي بالاشتغال على عين الذهب فقط». في المحصلة وهبتنا الطبيعة ما يمكن ان يُصلح هفوات الحكومات في تفقير الجهات. فكل جهاتنا تقريبا ثريّة بمخزونات السياحة البديلة والتي باستطاعتها خلق موارد الرزق وتحقيق تنمية جهوية تبدو ليست ذات أولوية في اجندا السلطات سواء الجهوية منها او المركزيّة. لتظلّ السياحة البديلة الحصان الأسود للتنمية الجهوية. والحصان الأسود هو كل منافس ذو الإمكانيات الضئيلة مقارنة بمنافسيه والذي لا يتوقع أحد انتصاره فيحصد عكس التوقعات. مهدي حلوي مدير إدارة المنتوج بوزارة السياحة نقص الإرادة يعيق القطاع أي مفهوم للسياحة البديلة وفقا لمصالح وزارة السياحة؟ هي السياحة المختلفة عن السياحة الشاطئية ويعود تاريخ تفكيرنا في تنويع منتوجاتنا السياحية الى منتصف التسعينات والبنك الدولي نفسه تقدّم الينا بتوصية في عام 2000 بضرورة تنويع المنتوجات السياحية كي يتجاوز القطاع ازمته الموسميّة فالسياحة الشاطئية هي سياحة موسميّة. ما الذي عطّل إذن تقدّم هذا المشروع البديل إذا كانت نيّة التنويع تعود الى منتصف التسعينات؟ سأسميه نقص إرادة فتشتت المتدخلين في المشاريع عطّل تقدّم هذا الملف كما ان وزارة الثقافة ربّما لم تقتنع مصالحها بوجهة النظر الاقتصادية في استغلال المعالم الثقافية والاثار، هناك اذن اختلاف في وجهات النظر بين الجانب الاقتصادي والجانب العلمي والمحافظة. وبالتالي لا تُبْذل مجهودات كبرى لتثمين هذه المنتوجات اقتصاديا. قانونيا هل تطورت النصوص بتطور الرغبة في تنويع هذه المنتوجات البديلة وكذلك بتغيّر التوجهات السياحية اليوم وبروز وافدين جدد مثّلوا صنفا جديدا من السيّاح وهم مستكشفو الغابات والصحارى وغيرها؟ طبعا هناك قانون 2007 والذي مثّل الاطار لتثمين هذه المنتوجات إذ حدّد أنماطا جديدة للإيواء وهذا يشجع على السياحة البديلة. كما ان هناك قرارات وزارية متعلقة بالمواصفات. هل لديكم خارطة حول مناطق السياحة البديلة (مثل شلالات الخلوة في معتمدية غزالة)؟ لا. كان لدينا مشروع لإحداث هذه الخارطة عبر مكتب دراسات انطلق منذ 2007 وفشل الامر بعد ست سنوات ولم يتم استكمال مثل هذا المشروع. كيف تنظرون الى مستقبل السياحة البديلة؟ لدينا دراسة استراتيجية حول السياحة انجزناها خلال 2010 وتم تحيينها مرتين وتم في هذه الدراسة الوقوف عند أهمية السياحة البديلة وتم تحديد اهداف كميّة منها إضافة الى 40 مشروع إيواء بديل سنويّا. كما تنص الدراسة على تنويع المنتوج لضمان ديمومة الموسم السياحي واستقطاب أسواق جديدة ففي تونس هناك طاقات كبيرة ونستطيع مضاعفة عائداتنا من القطاع السياحي ومضاعفة عدد الوافدين من خلال السياحة البديلة كما ان في هذا القطاع طاقة تشغيلية عالية جدا واشعاعه يكون اكثر على المناطق الداخلية وهذا يخدم التمييز الإيجابي.