لم يعد مصطفى إلا في آخر الرواية وقد التقته «شفاء» في زاوية بالمغرب بالصحراء الغربية . لكن هيهات فقد تنسكت وتصوّفت، مستمعة إلى صوت القلب آخذة بالإيمان ملاذا للتطهر بعيدا عن الدنيا وشهواتها . (أسئلة كثيرة تزاحمت في رأسي تبحث عن أجوبة . ما الموت ؟ ما الرحيل ؟ ما السفر؟ وما الوجود أصلا هذا السر العظيم الذي في طرفة عين يطوينا ويسجلنا في صفحات ماض منسي ) ص76.حصل هذا التحوّل حين ماتت الجدة وغاب الزوج وعافتْ أجسادَ الرجال وأُتْرعت بحكاياهم . غادرت قابس إلى تونس في مناسبتين . فالذين عرفتهم أنكروا سلوكها ولن يرضوا عتها وإن سلخت جلدتها مكتفية بحمل ما قلّ من مال وما خفّ من متاع .كانت محطتها الأولى مقبرة الجلاز حيث زارت والديها ثم ركبت بعد ذلك إلى مقام السيدة المنوبية ومن هناك أرسلت من قبل رئيسة المقام على اعتبار أنها من الأشراف إلى المغرب الأقصى ثم الساقية الحمراء لتساهم في أشغال ندوة علمية عالمية حول التصوف .وهناك التقت بزوجها القادم من أوروبا وعرفت أن لهما بنتا شابة . فدعاها إلى السفر معه إلى قرطبة حيث معلمها ابن عربي حتى يعيشا سعيديْن . لكنها حتما سترفض إذ لا حاجة بها إلى الدنيا وقد وجدت طريقها إلى الآخرة . لقد حاولت بطلة الرواية أن تتخلّص من المدنس وتفرّ إلى الله كما لو كانت رابعة العدوية . معتنقة المذهب الصوفي متتبعة مناقب رموزه في تونس والمغرب وموريطانيا وإسبانيا. رواية تذهب في البحث في صراع المدنس والمقدس من خلال رؤية دينية تعتبر أن الإنسان عامة يفرّ إلى الله حين تحيط به المصائب وأن الله يغفر الذنوب جميعا إلاّ أن يشرك به . فالأنثى حين تخوض تجربة بجسدها ولا تخوضها بقلبها ومشاعرها لا تؤثر فيها.والقلب حين يخفق للإيمان والتوبة يعْتُق الجسد ويحرّره من سجن اللذة والرغبة ، فتغادر البيت والمدينة والبيئة إلى مكان آخر. وما الحركة الصّوفية إلا تطهير للجسد من إلحاح الشّهوة وتخليص للعقل من محدوديته . فهل نجحت مريم ذياب في تحرير شخصية شفاء من العوائق التي تحيط بها والانطلاق بها إلى عوالم أرحب ؟ . بين شفاء بطلة رواية رقصا على أعتاب العابرين وشخصية السيدة المنوبية. لا بد أن نشير إلى أن التجاء بطلة الرواية إلى مقام السيدة المنوبية لم يكن مبرمجا له . والواقع أنها وهي تصل متأخرة إلى العاصمة وتستشعر قدوم الليل بمقبرة الجلاز الذي سرّع منسوب خوفها وإحساسها بالفناء وتفاهة الحياة ، قرّبها أكثر إلى الله وصوّر لها أن الفوز كلّ الفوز في الرجوع إلى الحق الملاذ الأمين للإنسان . ولولا الليل وإحساسها بالضّياع وما تسرّب إليها من وعي بتفاهة الحياة في لحظتها تلك ، لما برق في ذهنها مقام «السيدة المنوبية» وتمثُّلِ شخصيتها ملاذا للفقراء والمهمشين ، إذ يقول الباحث عبد الجليل بوقرة في مقاله المنشور على الشيكة العنكبوتية: «السيدة المنوبية من ألفها إلى يائها». (كان المشهد السياسي والاقتصادي والديني خلال تلك الحقبة من تاريخ إفريقية 593ه / 665 ه / 1197 م / 1267 م لا يبعث على الاطمئنان فقد انعدم الأمن مما يفسر تنامي الحاجة إلى الإيمان وإلى اللجوء إلى أصحاب الكرامات ممن يملكون ناصية العلم والدين . كانوا يلوذون بأولياء الله الصّالحين بحثا عن الأمان والاطمئنان .). لماذا تذكرت شفاء في هذه اللحظة مقام السيدة المنوبية ولم تتذكر مكانا آخر أو صديقا تلتجئ إليه ؟ لا شك أنّ نورا من الله انقذف في صدرها فجعلها تفكّر في طيّ ماضيها بل والتخلّص من حاضرها والتوق إلى النجاة بالبحث عن الحق والخير والجمال وبالتقرب من عباده الصالحين ، لعلها تتخلّص من سيرة الماضي وقد شعّت في ذهنها شخصيتا رابعة العدوية والسيدة المنوبية كأفضل مثال للتوبة والتقوى وهجر الدنيا . استطاعت الأولى التخلص من الدنس والشهوة والضياع وأن تطرد الدنيا من حياتها فتقتل جسدا وتحيي آخر عبدا ا، مشعّا إيمانا ، فتكسب أتباعا جددا، أولئك الباحثين عن الحقيقة والله. واستطاعت الثانية أن تسير على أعقابها في التبتلوالإرادة .فباب التوبة مفتوح مهما أتى الإنسان من ذنب والله يقبل توبة عبده ما لم يشرك به . يتبع * رواية صادرة عن دار زينب