حيث تبدو عناصر السّرد واضحة من شخوص: هو (المخاطب)، والظلّ، والأمكنة (التّشرّد في الشّوارع والأزقّة ليلا والمقاهي..)، وأزمة متصاعدة ظاهرة في توالي الأفعال، وانفراجة أخيرة، أو لحظة تنوّر تبدو في إمّحاء ظلّ كلّ تلك الصّور إيمانا بأهميّة الكلمة ودور الشّاعر: كن رحيما أو متجبّرا.. كن كما تريد.. ولكنّك لن تكون إلاّ شاعرا متدثّرا بنور الكلمة.. ومكتويّا بجمر القصيد.. فكن كما تريد..!...(19) لكنّ هذه المقطوعة السّرديّة –وإن قامت بفعل إبداعيّ بحدّ ذاتها- ستبدو أهمّيتها بما تنتجه من علائق مع باقي النصّ، حيث يبدو المخاطب (هو) في حضوره المهيمن، والجدليّ مع ظلّ عناصر الصّورة (كن شعاعا..كن أرضا مقدّسة..أو أرضا مدنّسة..كن دئبا..كن حجرا..كن رفيف الشّمس..كن قصيدة عصماء...إلخ...) ممتدّا على مدار النصّ، ليصبح انمحاء الظلّ وغياب كلّ تلك العناصر معادلا لأهميّة الحضور شعريّا والتعلّق وجوديّا بدور ومكانة الشّاعر الّذي عليه تجاوز كلّ الصّعوبات ولا ينحني أمام المغريات، إنّ للجملة الفعليّة في نصوص شاعرتنا سحرها الأكيد الّذي يبدو في منح النصّ الشّعريّ حياته الخاصّة، وفي قصيدتها: «ازرعني في حقول الرّيح!!» خير دليل على هذه الحياة المتفرّدة: لكي نولد ولا ننسى ونرقص رقصة زوربا ولا نسقط ونشرب على نخب المعنى وننهل من ذاك النّور الّذي لا يخفى...(20) إنّ الصّور الّتي تصوغها الشّاعرة معبّرة علن الفضاء أو الحالة النّفسيّة والأوضاع المعيشيّة تبدو في حركتها الحيّة راسمة ذلك الفضاء أو تلك الحالة (لاحظ الدّلالة) في جدليّته مع باقي عناصرها لتتصاعد تلك الجدليّة واصلة في النّهاية إلى قمّتها لتبدو لنا أهميّة تقنية التّشخيص الّتي تعتمدها الشّاعرة –في معظم نصوص الدّيوان- لإسباغ الحياة على المجرّدات الّتي ينطلق منها خيال تجربتها، والّتي يبدو عالمها الشّعريّ من خلاله ذلك العالم الّذي ينطلق بالضّرورة من غير المحدّد لتصل في النّهاية إلى تحديد ما ليس بمحدّد دون تقيّيده على إطار واحد: أفتّش عن دوح يعيد إلى رئتي أنفاس البحر فيفنى الوقت؟ من يعيد الجنون إلى عقلي فيغفو الشّعر على صدري؟ من يرتّب عناصر فوضاي ويبعثني في الكون امرأة أخرى؟ في وطن تزيّن حقوله سلال من فاكهة الشّمس...(21) إنّ دلالة ذلك الفضاء أو تلك الحالة أو الأوضاع الاجتماعيّة والسّياسيّة على مدار الدّيوان توحي بإملاء دلالي، وهذا الإملاء الدّلاليّ ينصبغ بمكوّنات عالم القصائد الموغل في الخصوصيّة وتحويلها إلى صور حركيّة معتمدة على توالد الأفعال ليصبح الخيال الشّعريّ متعلّقا بإيقاع زمنيّ ناتج عن بنى سرديّة متضمّنة داخل صور شديدة التّركيب: هكذا الإبرة حبلى بألف سؤال وهي ابنة الأسئلة لأيّ جواب تغازل الظّلام والعيون وتنثر حبّات اللّجين لنرى العالم أعور...(22) كما نتبيّن إشكاليّة الذّات الشّاعرة مع عالمها، تلك الإشكاليّة الّتي تحاول هذه الذّات التّعامل جماليّا معها وتشكيلها لغويّا، وهو ما يتظافر مع الاستخدام الشّعريّ المميّز للأفعال، حتّى ليبدو العنصر الأهمّ في هذه التّجربة هو صراع الذّات وما ينتج عن هذا الصّراع من تجارب: أخاف الحبّ بقدر الخوف من يأسي ومن فشلي وبقدر الخوف من سهدي ومن أرقي وبقدر الخوف من جوعي ومن عطشي وبقدر الخوف من ضعفي ومن مرضي أخاف الحبّ.. بقدر الخوف من شكّي ومن قلقي بقدر الخوف من جرحي ومن ألمي...(23) هي ذات قلقة عبر كلّ النّصوص لا تستقرّ على حال: أذوب في المدى أرتّل تراتيل وجدي لخالقي الله أكبر لا إله إلاّ أنت! رحماك ربّي من سهد الضّنى! رحماك خالقي من حلّي وترحالي..!...(24) وبرغم صراع الذّات ومعاناة مرارة واقع الأوضاع..تلتقط الشّاعرة التّعبير الشّفيف عن لحظة إلاهيّة السّمات: صلاتي على الرّسول معراجي ومددي أسبّح في مهجة خالقي يا بصير ويا جليل!.. يا مجيب ويا معين!.. إليك حالي وأحوالي إليك شكّي واحتمالي إليك سرّي وجهري إليك عللي وأسبابي...(25) وإذا كان العنوان أوّل عتبة في استقراء النّصوص، فالشّاعرة قد زاوجت بين عناوين قصيرة وعناوين طويلة لبعض قصائدها (أيّها الرّاحل عبر تفاصيل جروحي!!..صوت الشّهيد فوق صوت الأعادي...) كأنّما الفكرة لديها تتحوّل إلى بنية في تشكيل قصائدها بدءا ن رمزيّة العنوان، وإذا كان قدامى الشّعراء في شعرنا العربيّ يعمدون للتّجريد ببناء قصائدهم على حوار داخليّ بينهم وبين متلقّ فيها، وقد يكون هذا المتلقّي الطّرف الآخر في القضيّة موضوع القصيدة، فيكون الحوار بينه وبين الشّاعر، وقد يكون المتحدّث هو نفسه الشّخصيّة موضوع القصيدة: ازرعني في حقول الرّيح سوسنة.. تنسج من حرير النّور فستان عفّتها ازرعني قرنفلة أو سنبلة تصفع خدّ الزّمن صرختها: « أما حان الوقت لمحو مهزلة الصّمت؟ أما حان الوقت لكسر أسوار المقت؟ «...(26) وإذا ما كانت الشّاعرة تعتمد على الرّمز، فالرّمز تشعّ منه مفارقة ساخرة توجّه فيها نقدها على ما طرأ على المجتمع: نهبتوا خيرات الوطن.. ويا ما بعتوا!!.. ومصّيتوا دمّنا حتّى ضمرنا.. وحتّى بيوت الله عفستوها.. والمصاحف حرقتوها.. هكّة كنّا؟.. ودمّرتوا المدن ونهبتوها.. هكّة صرنا؟ هكّة ربّي قال؟ يا خيوة الشّيطان!.. كفّوا يا أهل الدّمار والخنّار.. حلّوا عنّا!.. حرنا فيكم.. ومن هموم بلاويكم تجرّعنا.. رزعتوا في ربوعنا فتيل الفتنة وقسّمتمونا.. وشعّلتوا جحيم الحقد وسرقتوا قناديل الثّورة وكسّرتوها.. وشرّدتوا شبابنا.. وغرّيتوا بيهم.. ومرمدتمونا...(27) يتبدّى إذن صوت د.ريم العيساوي صوتا خاصّا يسهم إسهاما واضحا ومهمّا في تكوين المشهد الشّعريّ التّونسيّ والعربيّ، تتفاعل بجلاء مع مكوّنا الواقع المتأزّم لتطلق تجربتها الجماليّة الخاصّة، الّتي على الرّغم من إمكانيّة اتّصالها بتجربة الحداثة العربيّة _فإنّها لا تنبتّ عن تراثها-، فإنّ تجربتها الجماليّة او الشّعريّة -كذلك- قد أسهمت في استقراء أو استنطاق أو تطوير اللّغة الّتي تستخدمها عبر الاتّكاء على محاولتها استنطاق اللّفظة بدلالات فير محدودة، وعبر إسباغها على صورها الشّعريّة حركة (حركيّة) تمنح الصّور حياتها الدّائبة والمتجدّدة وتغنيها بالإيحاءات والتّكثيف وعمق الدّلالات. الهوامش (19): المصدر نفسه. نفس القصيدة. ص: 58 – 59. (20): المصدر نفسه. قصيدة «ازرعيني في حقول الرّيح». ص: 9. (21): المصدر نفسه. قصيدة «أفتّش عن وطن يدثّرني». ص: 87 – 88. (22): المصدر نفسه. قصيدة «الإبرة». ص: 100 – 101. (21): المصدر نفسه. قصيدة «أخاف الحبّ». ص: 32 – 33. (22): المصدر نفسه. قصيدة «على ضفّة الوقت...». ص: 72. (23): المصدر نفسه. قصيدة «أخاف الحبّ». ص: 32 – 33. (24): المصدر نفسه. قصيدة «على ضفّة الوقت». ص: 72. (25): المصدر نفسه. قصيدة «على ضفّة الوقت». ص: 72 – 73. (26): المصدر نفسه. قصيدة «ازرعيني في حقول الرّيح». ص: 7. (27): المصدر نفسه. قصيدة «يا أهل الخزي والخساسة!!..». ص: 104 – 105.