الحديث عن الظاهرة الشعرية هو بالضرورة حديث عن مجالات تطوّر كتابة القصيدة العربية ومدى تمسكها بطابعها التقليدي ومواكبتها لمتطلبات العصر. وقد يكون الكشف عن جمالية القصيدة العربية ودلالتها رهين كل فكر واع وكل قراءة معمقة ولكن لحظة الولادة الاولى رهينة خالقها فحسب فكيف هي لحظة مكاشفة الشاعر لذات الشعر؟ وما تكون علاقة الحداثة الشعرية بالتراث الشعري وفيهما تتجلى فاعلية القصيدة العربية جماليا ودلاليا؟ I لحظة مكاشفة الشاعر لذات الشعر لعل الحديث عن النص الشعري الحديث هو حديث عن نظرة تأمل للعالم وطريقة حضور وفاعلية فيه وها هنا تبرز قيمة الشعر وتتجلى اهمية القصيدة وها هنا ايضا يولد التساؤل عن القصيدة... «فمن أين تأتي القصيدة... ولكن من أين تأتي القصيدة» (1)؟ ان الحاح سعدي يوسف في السؤال عن مصدر القصيدة وعجزه الواضح عن حل لغزها لدليل على عذاب ومعاناة لحظة ميلاد الحدث الشعري. فالذات الشاعرة كثيرا ما تعيش آلام لحظة المكاشفة... لحظة ولادة النص الذي لا يقنعه الا تحويل خالقه الى «شعلة نارية تتقد بين الشر» (2) فحتى بعد تجاوز خطورة هذه اللحظة والتمكن من خلق القصيدة وانتزاعها من رحاب الصمت يظل الشاعر يعاني الحيرة والقلق فهو عاجز عن شرح القصيدة وفهمها... الامر الذي جعل محمود درويش يعلن عن حيرته قائلا: احاول شرح القصيدة كي افهم الآن... كنت احلمها... كنت أحلمها والتقينا أخيرا أحاول شرح القصيدة كي أفهم الآن ماذا حدث... ان كل جسد لغوي ينطلق من الذات الكاتبة ليعود اليها او الى وحدة الذوات الفاعلة او اللافاعلة في الكون ولكن ليس من اليسر ان تمتثل هذه الذات لرغبتها في الكتابة وفي القول الشعري مما يجعل الشاعر يعيش مع القصيدة كوعد وحلم الى حين تجيئه بشكل مباغت» (3) وتتملكه «كيوم بلا ميعاد» (4) فهي تتأجج داخله وتمزق روحه وتجيء وتختفي كالبرق ولا احد يعلم متى تكون النهاية لتخلق البداية... متى ينتهي كل هذا العذاب لتكون القصيدة. وليكتب الشاعر صمته ويشعل اللغة ويؤسس الحدث الشعري ويبشر بميلاد القصيدة العربية الحديثة.. لقد اقر «ارباب الاحوال» الشعراء في كل عصر ومصر عن رهبتهم وخوفهم من لحظة خلق القصيدة التي تولد الآن... ولكنها لا تصل» (5) ولكنهم في النهاية كسبوا الرهان وكتبوا النص اثر النص واحتفلوا بالقصيد تلو القصيد واعلنوا بكل ثقة انهم شعراء... اجل شعراء بتحقيقهم لإبداع باكتشافهم لكل مألوف وارتفاعهم فوقه واكسابهم الشعر ذاتيته وهويته. وهاهو شاعر المرأة وشاعر الحب يعلن «اني شاعر قرر.. ان يشعل اللغة» اما محمود درويش فإنه يقول أنا شاعر يكتب صمته». ان التقنية والجهد هما اللذان حققا شعرية سعدي يوسف ان يصرح ان كنت حقا شاعرا بفضل الله او الشيطان، فإنني شاعر بفضل التقنية والجهد، في حين يعلن الشابي انا شاعر وللشاعر في الحياة مذاهب تخالف قليلا او كثيرا مذاهب الناس فيها. ليس غريبا ان يكون الشعر ديوان العرب اذ كثيرا ما ساهمت وتساهم الظاهرة الشعرية في تحريك الكون ومحاولة حل إشكالياته فالشعر بنية لغوية متميزة له دلالة وفاعلية وحضور في العالم ماضيا ومستقبلا. ولعل هذا الدور الذي يحظى به الشعر في العالم العربي هو الذي يجيز القول بأن القصيدة العربية تعيش عصرها وتفعل فيه من اجل النهوض به ومساعدته على تجاوز مشكلاته وتحقيق تقدمه. وها هنا بالذات يولد الإشكال المتمحور حول القصيدة العربية وعلاقتها بالتراث والحداثة فهل ان الوفاء للاصل والتنكر للمعاصر هو الذي يحقق التواصل ام ان إشعاع الشعر العربي المعاصر وخلوده لم يكن الا نتيجة لإستقصاء التراث الشعري؟ II القصيدة العربية استقصاء للتراث الشعري قد تعني كلمة تراث مرحلة شعرية معينة بالضرورة التخلي عن هذه المرحلة ونسيانها. فصحيح اننا نعيش الحاضر وتحيط بنا الحداثة من كل جانب ولكن الاكيد انه لم يكن لتكون حداثة لو لم يكن تراثا ولان الظاهرة الشعرية في حاجة الى التراث فإن الذات الكاتبة تسعى الى تجاوز التراث الشعري لان في ذلك تطوير خلاق له فلا هو بالتقديس له ولا هو بالتجميد للنفس البشرية في حدود الماضوية فالشاعر الخلاق وكما يقول أدونيس في حديثه عن موقفه من ظاهرة التراث الشعري هو الذي يبدو في نتاجه كأنه طالع من كل نبضة حية في الماضي وكأنه في الوقت نفسه شيء يغادر كل ما عرفه هذا الماضي. المعلوم ان القصيدة العربية المعاصرة خرجت عن السائد وغيرت في النسق الخليلي ولكنها لاتزال تكتب ضمن التفعيلة الخليلية فيكون بذلك تجاوزها للتراث الشعري ليس الا تطويرا له وبحثا عن امكانيات جديدة وحديثة للتعبير الشعري فمن حق المبدع بل من واجبه ان «يبتكر الى جانب العبقرية الخليلية آفاقا اخرى تغني اللسان العربي والموسيقى العربية» (6). لأن الحدود قيود فإن القصيدة العربية المعاصرة حاولت ادراك الشعر من خارج بوتقة القوالب الجاهزة التي وضعها الخليليون فالأكيد انها تبدأ من التراث لتستغني عنه وتتجاوزه الى نفسها فتصبح مرجع ذاتها» (7). وهي بهذا تعلن عن امكانية خلق تراث جديد في الحاضر كفيل بتحرير العالم من حتمية الرجوع الى الموروث القديم». ان إبداع قصيدة عربية معاصرة لا يتحقق الا بالأخذ عن التراث الشعري وتجاوزه غاية في التجديد والتحديث وخلق بنية لغوية ذات بعد جمالي وفاعلية» جمالية ولكن ليخترق الشعر الحديث الراهن ويحوله الى رمز فقط من اجل تحقيق فاعلية جمالية ام يتجاوز ذلك ليكون النص الشعري ذا فاعلية دلالية تثير المعرفة والوعي؟ III القصيدة العربية بين الفاعلية الجمالية والفاعلية الدلالية ان الحدث سواء كان سياسيا ام ثقافيا ام اجتماعيا ليس غاية أدائه الشعر انما هو وسيلة يستخدمها الشعر من اجل الحديث عن المسكوت عليه بلغة ليست ككل اللغات. فإبداع النص الشعري هو في الوقت نفسه استقصاء للكائن بالكشف عن خفاياه وترميز للواقع. ولقد ناضلت القصيدة العربية مع ابي القاسم الشابي ضد الاستعمار الفرنسي وتمكنت من إقناع الكل بأحقية البقاء فكان ان ردد الجميع على لسان الشابي : سأعيش رغم الداء والأعداء كالنسر فوق القمة الشماء أما نازك الملائكة فإنها لم تجد غير النص الشعري ليحتضن عاطفتها وألمها وتمردها فهي ليست إلا: طفلة ترنو الى الشاطئ عبر النظرات وترى العالم بحرا مغرقا في الظلمات تتجلى إذن القصيدة العربية المعاصرة بما هي رؤية واقعية وصيانة شعرية فهي السعي بين الفن الجمالي والشعري الدلالي وهذا التكامل بين المجالين هو الذي جعل من الشاعر العربي عنصرا فعّالا في حركة النضال والاضافة على المستويين الذاتي الانساني والقومي العربي. الهوامش 1 سعدي يوسف: المجموعة الكاملة 2 أبو القاسم الشابي: المذكرات 3 نزار قباني: قصتي مع الشعر 4 بدر شاكر السياب: ديوان أنشودة المطر. 5 محمود درويش: عن مجلة الكرمل 6 أدونيس: في قضايا الشعر العربي المعاصر. دراسات وشهادات. 7 محمود أمين العالم: في قضايا الشعر العربي المعاصر . دراسات وشهادات.