أعاد المقترح الحكومي لاستكمال مسار العدالة الانتقاليّة الجدل حول المصالحة الوطنيّة من حيث هي شرطٌ لازمٌ لطي صفحة الماضي وتمتين أواصر الوحدة الوطنيّة والتقدّم بالتجربة الديمقراطيّة خطوات أخرى في طريق النجاح. أضاعت النُخبة السياسيّة ثماني سنوات في التجاذبات والمعارك الجانبيّة ممّا أبقى الحياة الوطنيّة مليئة بالأحقاد، مسكونةٌ بهواجس الانتقام، رهينة منطق تصفية الحسابات الفئويّة والإيديولوجيّة الضيّقة والركوب على الأحداث والمُتاجرة بالآلام والمآسي، وضرب في عمق النسيج المجتمعي في انسجامه وتآلفهُ وقيم الأمن والأمان والعيش المشترك. وغذّى مناحي الفساد المختلفة. حتما، لم يستفد ولن يستفيد أيّ طرف، من هذه الصراعات، لأنّها محدودة الأفق، تُراكم الخيبات ومعاني الفشل. وتجترّ ملفات الماضي. ولا تنظرُ الى رهانات الحاضر. ولا تستشرف استحقاقات الغد الضروريّة. غياب مصالحة حقيقيّة ما يزال يعطّل شؤون البلاد. ويُعقّد مشاكلها. ويدفع بالوضع العام الى مزيد التوتّر والاضطراب، مع تصاعد الخطابات الشعبويّة المحرّضة على الدولة والمهدّدة للاستقرار والمنتجة لمختلف مظاهر العنف والصدام. اليوم تفتح الحكومة نافذة أمل أخرى للمضي في استكمال مسار العدالة الانتقالية بما يكشف الحقائق. ويضمن حقوق المتضررين وجبر خواطرهم والعفو عن مرتكبي الانتهاكات، وفتح صفحة جديدة في مسار الثورة وتثبيت أركان الانتقال الديمقراطي بشكل سليم. ولكن لا يجب على الحكومة أن تكتفي بعرض مشروع القانون الأساسي لاستكمال شروط المصالحة الوطنية. بل عليها توفير الأرضية السياسية والبرلمانية والمجتمعيّة لإنجاح هذه المبادرة التشريعية الجديدة. ولا يكون ذلك إلاّ بامتلاك إرادة سياسيّة قويّة والتحلي بالجرأة والشجاعة اللازمتين للتفاعل إيجابيا مع ما تحقّق الى حدّ الآن عبر تسلّم التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة من قبل رئيس الحكومة وتثمين ما في مخرجاته من نقاط معقولة وإيجابيّة والتفعيل السريع لصندوق الكرامة. إنّ هدم الخطوات المقطوعة في مسار العدالة الانتقاليّة أو عدم الاعتراف بما تمّ تحقيقه كما يدفع الى ذلك، أمر على غاية من الخطورة لأنّه سيدفع إلى ما يُشبه الدوران في الحلقة المفرغة. وسيُعيد الملف من ثمّ إلى النقطة الصفر. إنّ مزيد تعطيل المصالحة الوطنيّة أضحى اليوم فعلا على غاية من الخطورة، فبقاء ملفات الماضي مفتوحة دون حسم وغلق هو إبقاء على جذوة نار ملتهبة ستعملُ قوى متطرّفة يمينا ويسارا على النفخ فيها من جديد واستثمارها لمزيد تعفين أوضاع البلاد التي تعيشُ على وقع درجة عالية من الاحتقان الاجتماعي وارتفاع متزايد لمنسوب المؤشرات الاقتصاديّة والماليّة السلبيّة. يُضاف إليها ما ينتظر البلاد من رهان انتخابي هام ومصيري خلال الأشهر القليلة القادمة والتحوّلات والاضطرابات التي تعيشها دول الجوار وكامل المنطقة. إنّ المصالحة الوطنيّة الشاملة هي صمّام الأمان الوحيد لتوحّد كلّ التونسيّين والتونسيات أمام المخاطر المتزايدة والتصدي لكلّ التهديدات وتجاوز مختلف المحاذير بنجاح.