شغل الترفيع في سن التقاعد الذي تم إقراره مؤخرا الرأي العام التونسي. فهل يشكل هذا الإجراء حلا فعليا للعجز الذي تعيشه الصناديق الاجتماعية الذي بلغ 3 آلاف مليار أم أنه مجرد إجراء ترقيعي ومسكّن ظرفي لاضطراب موازنات الصناديق؟ تونس (الشروق): بين مؤيد ومعارض للترفيع في سن التقاعد انقسمت آراء التونسيين. اذ اعتبرت فئة واسعة أن الحلول المعتمدة ارتكزت كما جرت عليه العادة على ارهاق المنخرطين وذلك سواء بالترفيع في سنوات العمل أو في الترفيع في نسبة المساهمات أو العمل على إقرار ضرائب جديدة منها اقتطاع 1بالمائة من الراتب في شكل ضريبة تضامنية في حين أنه من الأجدى البحث عن مصادر تمويل جديدة لهذه الصناديق التي يتعمق عجزها من سنة الى أخرى. ومن جهة أخرى يعتبر المؤيدون لهذا التمشي انه حتمي وان الاجراءات المنصوص عليها بالقانون المتعلق بالترفيع في سن التقاعد من شأنها تقليص عجز الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية الى حدود 280 مليون دينار في موفى سنة 2019 والى حدود 60 مليون دينار فقط سنة 2020. عدالة؟ ويشار الى أن سن "قانون الترفيع في سنّ التقاعد" الذي تمت المصادقة عليه يوم 03 أفريل الماضي من قبل مجلس نواب الشعب ينصهر في اطار إصلاح أنظمة التقاعد ضمن رؤية شاملة لسياسة الحماية الاجتماعية الواردة بالتوصية عدد 202 لسنة 2012 الصادرة عن منظمة العمل الدولية والمتعلقة بإرساء أرضية وطنية للحماية الاجتماعية والتي تم تنزيلها وطنيا كأولوية من أولويات المخطط الخماسي للتنمية -2016 2020 وذلك وفق ما ذكره وزير الشؤون الاجتماعية في لقاء صحفي خصص مؤخرا حول "قانون الترفيع في سنّ التقاعد". وأشار الى أنه تم استكمال كل الدراسات حول الجدوى الفنية والمالية بخصوص تركيزها كما تم الإذن بإعداد مشروع قانون توجيهي حول ضمانات الأرضية الوطنية للحماية الاجتماعية. واعتبر أنّه انطلاقا من الوعي بخطورة أزمة الصناديق الاجتماعية وسعيا إلى بلورة رؤية منسجمة لإصلاح أنظمة التقاعد، وتنزيل الإصلاحات الضرورية لمنظومة التقاعد بحيث تكون واقعية وعادلة ومتوازنة وقابلة للتطبيق وتأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على حقوق الأجيال القادمة ومصالحها عقدت اللجنة الفرعية للحماية الاجتماعية المحدثة بمقتضى العقد الاجتماعي والمكلفة بالمراجعة الشاملة لأنظمة الضمان الاجتماعي سلسلة من الاجتماعات المكثفة خلال سنتي 2016 و2017 وخصّصت بالأساس لدراسة الخيارات الممكنة لإصلاح أنظمة التقاعد في القطاعين العمومي والخاص. لكن عديد الخبراء تساءلوا الى متى يبقى المضمون الاجتماعي يتحمل وحده مسؤولية عجز الصناديق. كما تساءلوا أين يتم إنفاق الضريبة التضامنية ب1بالمائة عن الأجر التي يتم اقتطاعها منذ السنة الماضية في القطاعين الخاص والعام وهل تم تحويلها الى الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية أم تم توجيه جزء منها الى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي باعتبار أن المساهمات المقتطعة تمت من رواتب الموظفين في القطاعين الخاص والعمومي وبالتالي فمن المفروض أن يستفيد منها كلا الصندوقين خاصة أن هناك ضبابية في مسألة سبل إنفاق عائدات هذا الاجراء التي قدّرت بحوالي 300 مليار والتي يفترض أن تضخ لصالح الصندوقين الاجتماعيين للضمان الاجتماعي اللذين يعانيان من عجز مالي لا أن يتم توظيفها لصالح صندوق دون آخر مما يتطلب المزيد من الشفافية في هذا المجال. وهو ما جعل اتحاد الشغل واتحاد الأعراف يطالبان بمدهما بتفاصيل حول هذه المسألة. تنويع مصادر التمويل لا شك أن التمديد في سن التقاعد الى 62 سنة من شأنه أن يمنح الصناديق الاجتماعية جرعة اكسيجين إضافية وفق المختصين خاصة ان عجزها بلغ 3 آلاف مليار. وهو ما يتطلب مجهودا كبيرا لحلحلة هذه الأزمة خاصة بالنسبة الى الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية الذي بلغ عجزه الشهري حدود 100 مليون دينار وفق الإحصائيات الرسمية. وهو ما جعل الدولة تساهم بصفة استثنائية بقيمة تتراوح بين 80 و100 مليون دينار شهريا في سداد أجور المتقاعدين لضمان خلاصها في آجالها في السنوات الأخيرة. ويشار الى أن معدل جرايات المتقاعدين في تونس يناهز شهريا 1200 مليون دينار في حين أن استخلاص مستحقات الصناديق الاجتماعية لدى المؤسسات العمومية في حدود 20 و30 مليون دينار. ويرى خبراء في الضمان الاجتماعي أن كل متقاعد يستهلك خلال 4 أو5سنوات جملة ما تم اقتطاعه من مساهمات في الصناديق الاجتماعية طيلة حياته المهنية. لكن المؤكد أن التمديد في سن التقاعد لا يكفي لوحده لحل أزمة الصناديق الاجتماعية مما يتطلب حزمة من الإصلاحات العميقة وتنويع مصادر تمويل هذه الصناديق. ويشار الى أنه في إطار تنويع مصادر تمويل أنظمة الضمان الاجتماعي تم الاتفاق صلب اللجنة الفرعية للحماية الاجتماعية على إحداث مساهمة اجتماعية تضامنية بالإضافة إلى ضرورة إسناد الإصلاح المقياسي لأنظمة التقاعد بجملة من الرافعات والإجراءات المصاحبة الأخرى على غرار تطوير حوكمة الصناديق وتحسين الاستخلاص وتوسيع التغطية الاجتماعية. وفي هذا الإطار ذكر كمال المدّوري مدير عام الضمان الاجتماعي في تصريح إعلامي أن من أسباب الترفيع في سن التقاعد وجود ضغوطات حادة على مستوى حاجيات الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية من السيولة وتخلفه عن دفع المستحقات الراجعة الى الصندوق الوطني للتأمين على المرض بعنوان الاشتراكات وما تبعها من تراكمات تصل إلى 1504 م د في موفى شهر ديسمبر 2018. وهو ما دفع الى اتخاذ جملة من الإجراءات لمجابهة احتياجات السيولة المالية للصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية منها تخصيص اعتمادات مالية في حدود 300 م د على مستوى قانون المالية التكميلي لسنة 2016 واعتمادات مالية ب 500 م د على مستوى قانون المالية لسنة 2017 لفائدة الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية. لكن هذه الإجراءات رغم أنها مكنت من مواصلة إيفاء الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية بتعهداته تجاه منظوريه إلا أن أفقها يظل محدودا باعتبار أن العجز الذي يعرفه الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية يعتبر عجزا هيكليا بامتياز مرتبطا بالأساس بجملة من الأسباب الموضوعية. وهو ما يتطلب إصلاحا مرحليا يتمثل في المراجعة الشاملة لأنظمة الضمان الاجتماعي بمختلف فروعها على غرار إحداث مجلس أعلى لتمويل الحماية الاجتماعية. والى جانب الترفيع في سن التقاعد تم- في إطار تنويع مصادر التمويل- إحداث المساهمة الاجتماعية التضامنية لفائدة الصناديق الاجتماعية ضمن ميزانية 2018 اضافة الى تقديم عدة مقترحات وإجراءات أخرى في هذا الصدد وذلك لدى مناقشة ميزانية 2019. ومن المتوقع أن تدخل حيز التنفيذ بداية من سنة 2020. ومن بين هذه الإصلاحات إقرار حوكمة الصناديق وذلك بهدف إعادة التوازنات الى الضمان الاجتماعي. وتشير الأرقام الى أنه من جانفي 2018 الى فيفري 2019 تمكن صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية من الحصول على اتفاقيات لاسترجاع مبلغ مالي قدره 900 مليون دينار اضافة الى 536 مليون دينار أخرى تخص شركات النقل العمومي. كما تم توسيع مجالات التغطية الاجتماعية في القطاع الخاص اضافة الى إقرار بعث المجلس الأعلى لتمويل الحماية الاجتماعية الذي سيضطلع بمهمة المتابعة الدقيقة والمتواصلة للتوازنات المالية للصناديق الاجتماعية وتقديم اقتراحات عملية لضمان ديمومة هذه المنظومة وتطوير خدماتها. بدر السماوي خبير الضمان الاجتماعي .. جرعة أكسيجين... لكن كان المفروض اتخاذ خطوة الترفيع في سن التقاعد منذ سنوات. فقد أثبتت الدراسات جدية الأزمة التي تمر بها الصناديق. واعتبر أن هذا الحل يعطي جرعة أكسيجين لكنه لن يحل الأزمة. فالمطلوب تنويع مصادر تمويل الصناديق واستخلاص ديونها وتوسيع التغطية الاجتماعية والحوكمة. واعتبر أنه من المفيد أن نعلم أن التونسي تقبل هذا الترفيع. ولم يعد موضوعا مقدسا كما كان في السنوات السابقة. كما لم يعد مرفوضا اجتماعيا لعدة أسباب منها أن أمل الحياة يبلغ -في تونس- 75سنة. وهو ما جعل سنوات الانتفاع بجراية التقاعد ترتفع (للمتعاقدين والأرامل والأيتام) الى 20سنة. وبالإضافة الى ذلك فإن معدل سن الانتداب في القطاع العمومي أصبح يتراوح بين 30و35سنة. وهو ما جعل عديد الموظفين يطالبون بالترفيع في سن التقاعد حتى تكون جراياتهم مرتفعة على غرار الأطباء الذين يمكن الاستفادة من خبراتهم بعد 60سنة. واعتبر أن الحل يكمن في تنويع مصادر تمويل الصناديق منها إقرار إحداث مساهمة اجتماعية تضامنية تم إقرارها منذ 2018. ودعا الى توسيع هذا الإجراء حتى يشمل أيضا الأشخاص والشركات غير الخاضعة للضريبة أو المعفاة منها من ذلك الناشطون في السوق الموازية وغيرهم وذلك لتأمين العدالة الضريبية بين كل المواطنين. كما دعا الى الشفافية في إنفاق هذه المداخيل وطرق توزيعها على الصناديق بشكل عادل. وعموما يبقى الحل الجذري لمشاكل الصناديق هو الترفيع في نسبة النمو الاقتصادي التي توفر مواطن شغل جديدة. وتؤدي الى الارتفاع في حجم المساهمات القادر على تغطية الجرايات دون صعوبات.