في وقت تعيش فيه البلاد على وقع أزمات اجتماعية واقتصادية ثقيلة، وفي ظل وضع إقليمي معقّد، تواصل الأحزاب، والنخبة السياسية عموما انغماسها في معارك جانبية غالبيّتها وهميّة ومفتعلة. تونس (الشروق) يكاد لم يعد يُنظر للممارسة السياسيّة في تونس الاّ على أنّها بحث عن الغنيمة والتموقع المصلحي وضرب الخصوم على قاعدة الغاية تبرّر الوسيلة. من معركة الى أخرى تحطّ الأحزاب رحالها في أتون تصادمات عنيفة وقطيعة مسَّت العلاقات السياسيّة في الصميم، إذ تتضارب الأجندات بشكل مُتسارع وعلى نحو مفاجئ في الكثير من الأحيان لهدم كلّ مبادرات تقريب وجهات النظر وتوحيد الجهد الوطني لمغالبة صعوبات الراهن وتحدياته. ما الذي يدفع الأحزاب والسياسيّين الى مثل هذا السلوك السلبي أشهرا قليلة قبل تنظيم موعد انتخابي هام ومصيري؟ لماذا استبدلت النخبة صراعات البرامج والأفكار والبدائل بصراعات المصالح والمكاسب الفئويّة الضيّقة؟ وما هو مآلات هذا الانغماس في معارك وهميّة باطلة؟ وهل هناك وعي بما في ذلك من مخاطر؟ في محاولة للاجابة عن هذه الاسئلة يرى محمد القوماني عضو المكتب السياسي لحركة النهضة أنّ مؤشرات عديدة تدلّ على أنّ هناك تهرّبا من الاستحقاق الانتخابي، التشريعي والرئاسي لنهاية سنة 2019، وأنّ ذلك يدفع تدريجيا الى الانزياح بوعي وبغير وعي، إلى أجواء الاستقطاب وموضوعاته، وأضاف القوماني:» كان المأمّل أن يعي السياسيون أنّ العودة الدورية لصناديق الاقتراع أداة الناخبين الديمقراطية لمحاسبة السياسيين، وأنّ الوضع مختلف هذه المرّة عن الانتخابات السابقة. فالتونسيات والتونسيون ينتظرون أجوبة واضحة ومقنعة ووعودا قابلة للتحقّق في التصدّي لمشاغلهم وانتظاراتهم المعيشية التي تراكمت وصارت تنغّص حياتهم وتتهدّد مستقبل أولادهم». ويذهب المتحدّث الى أنّه لا يجب أن تكون المناكفات الثقافية والسياسية في مواضيع مهما كانت أهميتها (على غرار مبادرة قانون المساواة في الإرث وما يعرف بملف الجهاز السرّي والمدارس القرآنية، وتبرعات الأموات والتوريث الديمقراطي) هروبا من مواجهة مُستحقّة للتحدّيات الاقتصادية والاجتماعية. تسخين وتتفيه ومخاتلة من جهته يعتبر زهير مخلوف الناشط السياسي والحقوقي أنّ الحملات الانتخابات السابقة لأوانها في العالم الثالث تقوم على التسخين والتتفيه والمخاتلة والوعود الزائفة أما المعارك الانتخابية فقد تستعمل أسلوب الإساءة للآخرين من خلال اختلاق ملفات بشأنهم او ابتداع مواضيع واهية في ما بينهم وقد يتم استعمال القانون لاقصاء بعضهم البعض أو توظيف المؤسسة الأمنية لشيطنة أحدهم، ويرى مخلوف أنّ مثل تلك الممارسة تعود الى ضعف المرشحين وافتقادهم لمشروعية شعبية او نضالية أو تاريخية أو كاريزماتية لذلك يلتجأ جميعهم للإساءة للآخرين بحثا عن تزكية موهومة لذواتهم، واضاف مخلوف:» نرى تداعيات ذلك على العملية الانتخابية ذاتها وعلى مستقبل العمل السياسي في أوطاننا حيث يتم تدنيسه وافقاد الناس الثقة به وبالسياسيين وبجدوى الانتخابات ويؤول الأمر في بعض الأحيان إلى حضور النقمة والامتعاض من أي ممارسة ديمقراطية ويصل الأمر ببعض الشعوب الى الترحيب بالانقلابات العسكرية والقبول بسلطة العسكر». غياب الوازع الأخلاقي وتكافؤ الفرص وفي نفس السياق يعتقد لطفي المرايحي الأمين العام للاتحاد الشعبي الجمهوري أنّه مع اقتراب موعد الانتخابات وخاصة الرئاسية منها انطلقت معركة كسر العظام بين متنافسين لا وازع أخلاقي يردعهم على تحقيق غياتهم وكل يستعمل ما أتيح له من أدوات لإزاحة الخصوم، متسائلا :«كيف لنا أن ننتظر من هؤلاء الالتزام بشرف المنافسة النزيهة وقد تسللوا إلى المشهد متنكرين ومتوارين خلف مقاصد جمعياتية نبيلة في الظاهر سرعان ما اتضح وسيتضح أكثر في قادم الأيام أنها كانت نشاطات تمهيدية لاستمالة الناخبين إما باستغلال ضيق حالهم المادي أو بالتحيّل عليهم ودمغجتهم». يأسف المرايحي الى أنّ البلاد مقدمة على انتخابات بلا ضوابط ولا قواعد تتبارى فيها الأحزاب مع الجمعيات مع المستقلين في مشهد لا نعرف له شبيها يذكر في الديمقراطيات الجدية، فبينما تلتزم الأحزاب بجملة من الشروط والضوابط منها تقديم الكشوفات المالية الدقيقة عن التمويل وثبت عدم تلقيها اي تمويل أجنبي ولم تقدم لها أي مساعدات عينية أو نقدية. فإنّ بعض الجمعيات هي في حل من كل هذه الشروط وغيرها أما عن الأفراد المستقلين فحدث ولا حرج. وهذا ما يطرح في تصوّر المرايحي غياب الفرص المتكافئة: فكيف لهؤلاء أن يتنافسوا بذات الحظوظ وبعضهم مكبّل وبعضهم اﻵخر طليق؟، مُضيفا:«هكذا هو عبث القوانين الانتخابية وكأنّها جعلت لتشتيت أصوات الناخبين وللحيلولة دون بناء كيانات سياسية صلبة قادرة على تجميع التونسيين وإدارة إختلافاتهم في تناقض مع النظام السياسي المعتمد والذي قوامه الأحزاب». شعبويّة وتطرف يميني ويساري كثير من المتابعين والمحلّلين يؤكّدون أنّ هذا الصراع الهامشي من قبل النخبة التي كان من المفترض أن تنكبّ على مشاغل البلاد الحقيقيّة وتبحث لها عن حلول عاجلة، سيؤدي تدريجيا الى تصاعد موجة الشعبويّة القائمة على الشعارات البرّاقة والجذّابة الخالية من كلّ بعد موضوعي أو عقلاني، فتيارات الشعبويّة الصاعدة اليوم في العالم تُخاطب عواطف الناس وتدغدغ مشاعرهم وتلهبُ فيهم الحماس الكاذب، لأنّهم في النهاية سيكتشفون زيف تلك الشعارات ومحدودية الوعود المقدّمة بل استحالة تحقيقها على أرض الواقع. وتعجّ الساحة السياسيّة والحزبيّة اليوم في تونس بحراك شعبوي لافت، من قوى اليمين واليسار المتطرفة، أدّى في ما أدّى إلى عودة مظاهر العنف مثلما شهدنا ذلك في سيدي بوزيد وصفاقس مؤخرا. ولا يختلف المحللون حول التنبيه الى خطورة هذا المنزع الشعبوي في معالجة وضع معقّد وصعب اختلطت فيه تراجع المقدرة الشرائيّة ومخاوف المعيش اليومي بحالة الحيرة واليأس والخيبة التي باتت تضرب فئات وقطاعات واسعة من المجتمع. الزنقة ستقفُ بالهارب؟ وعن المآلات الممكنة لمثل هذه المعارك الوهميّة والصراعات الجانبيّة، والتي البعض منها يبلغ درجة الصبيانيّة والتفاهة، يعتقد محمّد القوماني عضو المكتب السياسي للنهضة أنّه لن يكون مسموحا ولا مُجديا في انتخابات 2019، تكرار سيناريو الاستقطاب مهما كانت العناوين. ومهما كانت المناورات والمراوغات، ومهما حصل من توظيف للمستجدات، إذ:«باقتراب الانتخابات ستقف الزنقة بالهارب، ليُواجَه المترشحون من الأحزاب والمستقلين، بأسئلة الناخبين الحارقة المتعلقة بتطلعها الى تغيير واقعهم وتحسين ظروف عيشهم بعيدا عن المعارك وصراعات النخبة ومصالح الأحزاب وبحثها عن الغنائم». ولكن المنسوب المتصاعد للمعارك الوهميّة وإفرازاتها السلبيّة على الحياة الوطنية والعلاقة بين الأحزاب والسياسيّين وما تلقيها من ضبابية على الآفاق المستقبلية تدفع الكثيرين إلى رفع سقف المحاذير، فمثل هذه الأجواء المحتقنة وهذا الحماس الكاذب والمغلوط قد تهدِّد بصفة جذريّة إتمام المسار الانتخابي الحالي بسلام. أسئلة المعارك الحقيقيّة أسئلة المعارك الحقيقيّة يطرح المواطن الكثير من الاسئلة التي من المفترض أن تعكف النخبة والأحزاب على إيجاد أجوبة لها عوضا عن معاركهم الوهميّة الكاذبة، على غرار: ما هي حلولكم لمشكلة المديونية المتفاقمة؟ كيف ستجلبون الاستثمار وتخلقون الثروة؟ ما الحلّ لخفض ملحوظ لنسبة البطالة؟ وكيف السبيل للتعاطي مع حوالي المليون من المعطّلين عن العمل؟ ما هي رؤيتكم للإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية المتأكدة؟ ما هي برامجكم لخفض الأسعار وحماية المقدرة الشرائيّة للمواطنين وخاصة ضعاف الحال؟ كيف تعيدون التوازن للمالية العمومية؟ كيف تخفّضون كتلة الأجور بالميزانية ونسبتها في مختلف الوزارات؟ كيف ستتعاطون مع المؤسسات العمومية ذات الصبغة الانتاجية التي تعاني من الخسائر والديون؟ ما هي برامجكم المقترحة لتحسين البنية التحتية والنهوض بالصحة والتعليم والنقل؟ ما هي خططكم المرحلية للقضاء على الفساد؟ ماذا ستفعلون مع الاقتصاد الموازي؟ كيف تدمجونه؟ ما هي مقترحاتكم العملية للعدالة الجبائية؟ ما هي مشاريعكم للجهات المهمشة ولتفعيل التمييز الإيجابي؟ هل أنتم مع منحة للبطالة ودفتر علاج لكل مواطن؟ كيف ستتعاملون مع توقيف الإنتاج في مصالح حيوية؟ كيف ستضعون حدّا للجريمة التي صارت تهدّد أمن المواطنين؟