ولقد كان من أبرز سمات ذلك الطابع القومي للثورة في بداياتها الأولى هو إعلانها عن التزامها بالارتباط القومي المصيري مع الأمة العربية والتزامها أيضا بالأهداف القومية العربية للشعب في القطرالعراقي، وانعكس ذلك في التمثيل المتميز للاتجاه القومي في أول حكومة تشكلت بعد قيام الثورة بينما كان تمثيل الحزب الشيوعي بشكل خاص يعتمد على بعض العناصر الديمقراطية المحسوبة عليه. ويجدر بنا هنا ان نتساءل : ما هي تقويمات الاحزاب السياسية المختلفة للثورة فيما انعكس على مواقفها وسلوكها النضالي؟ إن خمسة مواقف عكست بعد الثورة خمسة تقويمات مختلفة كان اختلافها إلى حد التعارض ثم التناقض ثم التناحر الذي ازداد يوما بعد يوم. القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي اعتبرت الثورة تحقيقا للطموح القومي العربي للقطرالعراقي وفي مقدمته حينذاك تكثيف العلاقة مع الجمهورية العربية المتحدة الفتية والوصول بها الى درجة الوحدة وانطلق الحزب في هذا التقويم من مفهومه الإيديولوجي المحوري، وهو أن نمو حركة الثورة العربية في أي قطر لا يتحقق بمستوى الطموح،إلاّ من خلال حركة الثورة العربية ولقد كانت دولة الوحدة تمثل في تلك الفترة إحدى صيغها التاريخية، ذلك أن الانكفاء القطري للثورة يعني ضمورها وذبولها، وفي النهاية موتها. لأنها ستكون في تلك اللحظة فريسة سهلة لقوى الرجعية المحلية – وفي مقدمتها القوى البرجوازية التي تجد في الوحدة خطرا يهدد مصالحها – بنفس القدر الذي تكون به عرضة للمحاصرة والاحتواء والخنق من جانب الامبريالية وعملائها. ولقد اعتبرت نشرة سرية داخلية أصدرتها آنذاك الأمانة العامة للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي في مارس- عام 1959، أن التحرر من الاستعمار والرجعية يرشح القطرالعراقي للانضمام الى دولة الوحدة، وذكرت أن الفروق التي خلقها وضع التجزئة ليست هي التي تحول دون ذلك فحسب، بل إن المصالح الاقتصادية والسياسية للرجعية الداخلية والاستعمار هي التي تعارضها وتحاربها بتصميم ووعي. وأكدت أن الوحدة عملية ثورية يتطلب تحقيقها تخطي كل الاعتبارات المحلية والمصالح المرتبطة بالتجزئة. غير أن هذا المنطلق الاإديولوجي القومي لم يحجب عن الحزب رؤيته الوطنية للمشكلات الداخلية التي تعانيها جماهير الشعب داخل القطرالعراقي والتي تمثلت في إلحاحه على الإصلاح الزراعي الجذري الذي كان هدفا أساسيا من اهداف القوى الوطنية قبل الثورة، وفي تركيزه على المطالبة بالديمقراطية في العمل السياسي فضلا بطبيعة الحال عن بقية الاهداف التي اجمعت عليها القوى الوطنية في مجموعها. أمّا الحزب الشيوعي العراقي الذي يصدر تقويمه للوضع داخل القطر من منطلق إيديولوجي مغاير فلقد كانت له مواقفه الفكرية والعلمية المتعارضة مع حزب البعث العربي الاشتراكي سواء على الصعيد القومي العام أو على الصعيد القطري المحلي. فمن البداية، رفض الحزب الشيوعي العراقي شعار الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة الذي كان طاغيا ومهيمنا على المسرح السياسي داخل العراق كله ورفع بدلا منه شعارا هو الاتحاد الفدرالي ولم ينس – على طريقته – أن يضيف إليه والصداقة السوفيتية، ثم عاد مرة أخرى وخفض «الاتحاد الفدرالي « إلى شعار آخر اكثر ضمورا – قد لا ترفضه حتى الدول العربية الرجعية – وهو شعار «التضامن العربي». وبالمقابل رفع شعارا داخليا براقا في ظاهره هو «واجبنا صيانة الجمهورية والاستقلال الوطني». وكأن الوحدة العربية تمثل تهديدا للجمهورية أو تبديدا للاستقلال الوطني واعتبر الحزب الشيوعي هذا الشعار بمثابة المبدأ الأعلى الذي ينبغي أن تشتق منه سائر المبادئ الاخرى وتصدر عنه كافة الخطوات التنفيذية حتى على صعيد البنية الاجتماعية الداخلية نفسها. في هذا اللحظة التاريخية بدأ التباين و التباعد بين صدام و الشيوعيين العراقيين الذين صاروا في ما بعد أبرز معارضيه عندما تولى الحكم.