عندما وقف الشيخ حمد أمير دولة قطر ذات يوم من أيام المؤقت رئيس الغفلة المنصف المرزوقي ليعلن بكل صلف «لقد جئت لأعلمكم أصول البروتوكول ولأعلمكم كيف تقفون»... عندما تجرّأ على الدولة التونسية العريقة الضاربة جذورها في التاريخ والتي حكمها منذ خمسينات القرن الماضي الزعيم الحبيب بورقيبة المتخرج من الجامعات الفرنسية، المجاز في العلوم السياسية والمحامي في حين كانت بعض الدويلات شتات قبائل تائهة في الصحارى، عندما فعل ذلك فقد كان في الواقع ينعى الدولة التونسية ويدق آخر مسمار في نعش كرامتنا الوطنية وكبريائنا الوطني وفي حضرة رئيسنا المؤقت المؤتمن نظريا ودستوريا على هذه القيم والمعاني وفي حضرة رموز من الترويكا ابتلعوا الحبّة (الحربوشة) وقتها واكتفوا بتوزيع ابتسامات صفراء على وجوه كالحة كانت منتشية بتلك الصفعة القطرية... فهل نتفاجأ اليوم وقد أصبحت بلادنا مرتعا للسفراء يجوبونها بالطول والعرض... يحضرون ويدشنون ويعقدون اللقاءات والاجتماعات بلا حسيب ولا رقيب وفي خرق واضح وصريح لنواميس ولتقاليد ولأسس العمل الديبلوماسي.. وفي ازدراء بيّن وصريح ليسادتنا الوطنية ولهيبة الدولة التي كان يفترض أن تلزمهم باحترام القواعد والأصول.. وحتى صرخات الغضب التي أطلقها أكثر من مرة أمين عام اتحاد الشغل نورالدين الطبوبي في وجه هذه التصرفات المارقة لبعض السفراء ولاعتداءاتهم المتكررة على سيادتنا الوطنية، حتى تلك الصرخات بقيت مجرّد صرخات في واد لم تقابلها خارجيتنا بأكثر من تذكير يتيم توجهت به إلى الدوائر الديبلوماسية الأجنبية ببلادنا لتذكرها بأصول وحدود العمل الديبلوماسي. تذكير ذهب هو الآخر أدراج الرياح ولم يغيّر في الواقع شيئا حتى ان أحد السفراء الأجانب ولكثرة تنقله في عرض البلاد وطولها أصبح محل تندر من كثير من التونسيين الذين قالوا: «إنك إذا فتحت الثلاجة فستجد الطلعة البهية لسعادة السفير». *** هذه الاستهانة بالدولة وهذا التعسف على هيبتها هل تبقي مجالا للحديث عن كرامة وطنية وعن كبرياء شعب وعن أنفة أمّة؟ بالتأكيد لا... لماذا؟ لأننا ببساطة سمحنا منذ البداية بالدوس على سيادتنا الوطنية وأعطينا الانطباع بأن سيادة واستقلال قرارنا الوطني فيها نظر... وأنها أصبحت مسألة قابلة للنقاش طالما وجد من يربط صلفه وتدخّله السافر في شؤوننا الداخلية بالمساعدات المالية والعينية... وطالما وجد من يدير للأجنبي خدّه الأيسر بعد أن يتلقى الصفعة على خدّه الأيمن... فهل نستغرب بعد هذا مهرجان موائد الافطار والمساعدات الرمضانية التي تتهافت على إذلالنا بها جهات قطرية وتركية وكويتية؟ وهل نستغرب أن تصبح بلادنا وما أدراك وهي منبت الرجال والأبطال وأرض الحضارة والفكر ومنطلق الاسلام إلى ربوع قصية وراء البحار والتي راهنت منذ الاستقلال على بناء مقومات شخصية المواطن التونسي، هل نستغرب أن تصبح تونس ويصبح شعبها بمنزلة المنكوب، المعدم، الجائع الفقير الذي يستحق الشفقة والاعطيات ويتطلب الاغاثة.. لتأتيه المساعدات في قالب موائد إفطار ومساعدات عينية من زيت الصوجا وعلب الطماطم؟ أية مهانة هذه وأي إذلال هذا الذي يجري وسط مهرجانات فرجوية تتنافس فيها الدول على الازدراء ببلادنا وبشعبنا ونحن الذين علّمنا الكثيرين منهم أبجديات الكتابة والقراءة وأصول العلم والثقافة والحداثة؟ فهل تستقيم المعادلة بين بلد أرسل طوابير المعلمين والأساتدة والأطباء والفنيين لتبديد ظلام الجهل والتخلف وبناء إنسان عربي جديد وبين دويلات تمطرنا بموائد الإذلال وعلب المهانة والعار... وبحضور وجوه أعمتها السياسة وأعماها الاستثمار السياسي في مآسي العباد وحاجتهم فقبلت بتزيين مهرجان الاذلال حتى يكتمل المشهد وتستقيم الصورة التي يريد الإخوان رسمها وترويجها عن تونس الجديدة... تونس الجائعة المتسوّلة التي تبيع كرامتها رخيصة في سوق موائد الإفطار وعلب المساعدات الرمضانية... أيها السادة تونس ليست هكذا.. وطريق الاستثمار في مآسي خلق الله واحتياجهم مسدودة... ولو كانت نواياكم خالصة لوجه الله لماذا لا تعلّمون الناس صيد السمك بدلا من توزيع أردإ أنواعه؟ لماذا لا تقدمون مساعدات وقروضا إلى مؤسسات الدولة لتقيم مشاريع تشغل الناس وتفتح لهم آفاق العيش الكريم وتكفيهم عناء الفقر والحاجة والسؤال؟ إذا كان الفقر قد أعمى بصائر بعض التونسيين وجعلهم يتدافعون إلى موائد الذل والعار فهل تعجز الدولة ومؤسساتها وهل يعجز الخيّرون في بلادنا وهم كثر عن تقديم البديل وسدّ الثغرات التي ينفذ منها المتربصون بكرامتنا الوطنية والساعون إلى تمريغها في وحل التوظيف السياسي والمتاجرة بكبرياء شعبنا في مزادات وبورصات السياسة. قديما قالت العرب: «تجوع الحرة ولا تأكل من ثدييها».. ونحن نقول: «تجوع الحرة ولا تأكل من كرامة وكبرياء شعبها»... فهل من هبّة لسد كل الثغرات ونصرة سيادتنا وكرامتنا الوطنية وقطع الطريق أمام كل المستهترين بأصول العمل الديبلوماسي والساعين إلى الاستثمار في معاناة شعبنا وهي ظرفية وعابرة في كل الأحوال.