كان الذهاب إلى المستشفى هو الجنون بعينه إذ سرعان ما سوف ينكشف أمرهم وتكون الكارثة، ليس بالنسبة لهم كأفراد فحسب وإنما بالنسبة للتنظيم الحزبي كله. وإذا كان الموت ينتظرهم أو ينتظر بعضهم في الوكر، فإن الموت سوف يطبق عليهم بالقطع إذا حاولوا الذهاب إلى المستشفى ولذلك قرر صدام أن يتجهوا إلى الوكر مباشرة وان يتجاوز آلام رفيقه النازف حتى لا ينزف الحزب كله. أمام بيت، يحمل على بابه رقم 721 في منطقة الكرادة الشرقية (حي من أحياء بغداد) وقفت السيارة وهبط منها ركابها دخلوا إلى البيت الذي كان يحوي على طابقين :أربع غرف في الطابق الأرضي وغرفة واحدة في الطابق العلوي والى يسار البيت حيث مدخل الحديقة كان ثمة مستودع أرضي يختبئ فيه السلاح : مجموعة من الرشاشات طراز تومسون وستن وسرلنك. عندما دخلوا الردهة وجدوا (خالد علي صالح) وكان عضو قيادة أيامها في حزب البعث العربي الاشتراكي، وبعد برهة قصيرة لحق بهم إثنان من الذين اشتركوا معهم في العملية ولم يركبا معهم في السيارة التي أقلتهم إلى هذا المكان : حاتم حمدان العزاوي وأحمد طه العزوز. كانت حالة سمير النجم تتدهور، الدم ينزف من صدره والطبيب الذي كان من المفترض أن يلحق بهم لم يأت بعد وهو لن يأتي أبدا، وكان لابد من مواجهة الوضع كما هو بشجاعة بل بقسوة تتطلب في بعض اللحظات مثلما هي هذه اللحظة قوة تفوق صخر الغرانيت في صلابته. هذا البيت المعزول في شارع جانبي من جوانب هذا الحي الهادئ يضم الآن بداخله خمسة شبان حاولوا مواجهة الموت عينه على قارعة الطريق ولكنه أفلت منهم وها هو الآن يطاردهم في كل شبر من المدينة المذهولة ويسن كل مخالبه الحادة لينشبها في أجسادهم، فما عساهم يفعلون الآن؟ إن عمليتهم لم تنجح، لم تصب رصاصة واحدة من كل رصاصاتهم إصابة قاتلة جسد الدكتاتور الأوحد، لم تتمزق ظلمات الليل ولم تبد بعد تباشير الصباح بل والفجر مازال بعيدا خلف الأفق ومحطات الإذاعة تعلن نجاة الزعيم من محاولة اغتيال وسط جو هستيري مشحون بالقلق. الحاكم العسكري العام يقرر منع التجول في المدينة بشكل مطلق حتى إشعار آخر عيون الشرطة العلنية والسرية تثقب كل جدار في الطرقات والشوارع والأزقة بحثا عمن قاموا (بالمؤامرة الكبرى) لاغتيال (الزعيم المفدى) وغدا سوف تصدر كل صحف السلطة قائلة (إن الرصاصات الآثمة التي أطلقها أمس الخونة المتآمرون من عملاء الاستعمار والطامعون على ابن الشعب البار الزعيم عبد الكريم قاسم لم تكن إلا نذيرا بالمؤامرة المبيتة ضد جمهوريتنا) وستضيف إلى ذلك توصياتها يجب غلق الحدود بوجه المتآمرين الهاربين. الجبهة القومية زمرة من الخونة تعمل في خدمة الاستعمار والطامعين قوميون وأعداء. جريمة حزب البعث ومخططه التآمري. البعث وحكام القاهرة أدوات تنفيذ المؤامرة، إلى آخر ما يمكن توصيفه من العناوين. وهي بالطبع سوف تتجاهل آلاف الجرائم التي ارتكبت بحق جماهير هذا الشعب من (ابنه البار). والملتفون حوله يزكون فيه جنون السلطة الفردية المطلقة. مشانق الموصل، ضحايا البصرة، شهداء كركوكوبغداد، آلاف المعذبين في السجون والمعتقلات بشاعات القتل المجاني بالشبهات في الشوارع والطرقات.. من يذكر الآن نيران الجحيم التي اصطلى بها شعب بأسره؟ وهؤلاء الشبان الذين يناهزون الورد في عمره، هل كانوا حقا مغامرين ومتآمرين يسلكون طريق الإرهاب الفردي؟ إن أحدا منهم لم يكن يفكر وما كان بوسعه أن يتصور لحظتها أنه ينتزع من براثن الدكتاتور السلطة لنفسه كانوا يستشعرون فداحة الظلم الذي يلحق بهم وكانوا يتصورون فحسب أنهم يصنعون فجرا آخر لوطنهم وقبل ذلك وبعده كانوا رفاقا منضبطين ملتزمين في حزب أصدرت لهم قيادته العليا أوامرها وتصوروا الآمر أكبر من حقيقته. يتبع