ان محض الكرم ولُباب العقل، عفوٌ يتلوه عفو، وحلمٌ يقابل إساءة، وتغافلٌ عن زلّة، وتأويل لهفوة، وتتابع من هذه المواقف الكريمة، والخصال الكريمة، والأعمال الجليلة، ستذيب جبل الجليد مهما طال الزمن، وإن لم يكن ما يريد فهو نهر الأجور الجاري، والثناء العطر من الخلق، والمكانة العظيمة من النفوس، ورضى الله سبحانه فوق ذلك كلّه. و يشير الموقف النبويّ إلى أهمّية صلة الرحم ومكانتها بين مكارم الأخلاق، ولولا فضلها وعظيم منزلتها ما أرشد النبي ﷺ صاحب القصّة إلى احتمال الأذى في سبيل تحقيق هذه الشعبة من شعب الإيمان، والتي جاء ذكرها في قول الله تعالى ﴿واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام﴾ النساء:1، وجاء التحذير من ضدّها في قول الحقّ تبارك وتعالى: ﴿فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم﴾ محمد:2223، وقوله تعالى: ﴿والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار﴾ الرعد:25. وصلة الرحم ورد الحثّ عليها في عددٍ ليس بالقليل من الأحاديث النبويّة الصحيحة، تبيّن أنها سببٌ في طول العمر ومباركة الرزق، وأنّ الله تعالى قد تكفّل للرحم بأن يصل من وصلها ويقطع من قطعها، فقد قال النبي ﷺ : « إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك ؟ قالت: بلى يا رب قال: فهو لك» متفق عليه. وقال عليه الصلاة والسلام: «من سرّه أن يُبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أثره أي يؤخر له في أجله وعمره فليصل رحمه» متفق عليه، وفي التحذير من القطيعة قال عليه الصلاة والسلام: « لا يدخل الجنة قاطع رحم» متفق عليه. بل قد صحّ في السنّة ما يحثّ على صلة الأرحام غير الأوفياء، وهو ما يُطابق المعنى الذي جاء به الموقف الذي بين أيدينا، فقد قال عليه الصلاة والسلام: « ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل هو الذى إذا قطعت رحمه وصلها» رواه أبو داود. ومما يستوقفنا في أصل القصّة أن النبي ﷺ كان يُعلّم صحابته الرُقيّ والإحسان في أمورهم كلّها، فلئن كان العدل يقتضي من المظلوم أن يُعامل من ظلمه بالمثل، أو أن يهجرهم تجنّباً لسهامه المؤذية، ونباله الجارحة، فأين الصبر وأين الحلم؟ وأين العفو وأين المسامحة؟ وأين المودّة وأين الرحمة؟ بهذا فقط تُنال طمأنينة النفس وراحة البال، وما أحسن قول المقنع الكندي : وإن الذي بيني وبين بني أبي *** وبين بني عمي لمختلف جدا أراهم إلى نصري بطاءً وإن *** هم دعوني إلى نصر أتيتهم شدا إذا أكلوا لحمي وفرت لحومهم *** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا يتبع