ويواصل الاستشهاد بالقرآن الكريم ليبرز أنّ الله ليس في حاجة لعقابنا وهو يغفر الذنوب و جاء هذا المعنى كذلك في سورة النساء حيث يقول العزيز الحكيم:» ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم و آمنتم وكان الله شاكرا عليما لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول إلّا من ظلم وكان الله سميعا عليما إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإنّ الله كان عفوّا قديرا.» وينهي الطالبي هذا الاستعراض من الذكر الحكيم للردّ على المتشبّثين بوصف العليّ القدير «بالمعذّب الشديد العذاب بدون شفقة أو رحمة» بهذه الآية التي تؤكّد أنّ الله أَرْأَف بعباده من الأمّ على رضيعها يقول تعالى في سورة البقرة :»و كذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلّا لنعلم من يتبع الرسول ممّن ينقلب على عاقبيه و إن كانت لكبيرة إلّا على الذين هدى الله ما كان الله ليضيع إيمانكم إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم.» بعد أن ذكر الطالبي أنّ الحديث عن تغيّر القبلة ليس مجاله في هذا البحث بيّن أنّ هذه الآية تؤكّد على رسالة الأمّة التي هي ّالوسطيّة و الشهادة « كما بيّنا ذلك سابقا في العديد من المناسبات لذلك سنقف فقط على الوسطيّة العدديّة لسورة البقرة التي تعد286 آية و جاءت آية وسطيّة الأمّة في وسط السورة بالضبط أي آية رقم (143) وهو دلالة قاطعة على أنّ خطّة الله الذي جعل الإنسان خليفته في الأرض(سورة البقرة الآية 30 ) ليست اعتباطيّة بل هي مقصودة و بذلك تبرز أهميّة توسّط هذه الآية في السورة و هذا يعدّ عندنا نحن المسلمين من باب الإعجاز القرآني الذي هو تَحَدّ لعلم البشر و لا يمكن تقليده . المهمّ في بحتنا هذا هو أنّ هذه الآية تسند للأمّة رسالة أساسيّة هي الشهادة على الناس ورغم أنّ الأمّة تعثّرت وما زالت تتعثّر في «طريق التاريخ»الطويل و المليء بالمَطبّات و رغم كلّ الصعوبات فإنّ الأمّة أدّت رسالة «الشهادة « بدون مجاملة وحافظت على كلمة الله كما نزلت على رسوله بألفاظها بدون أن يمسسها أي تغيّر ونقلتها و تواصل نقلها كما نزلت منجّمة على الرجل الذي اختاره الله ليكون آخر رسله للناس قاطبة(الأعراف الآية 158 والآية 28 من سورة سبإ) في تنوّعهم العجيب و الذي هو في النهاية علم الغيب الذي هو سرّ الاه. والله يأمرنا أمرا قاطعا واضحا باحترام هذا التنوع « اهتمّوا بما هو من أنظاركم « ويأمرنا أن نترك الناس في راحة و سلام أليس الله هو نفسه سلم. فالله يعلن و يحذّر ولكن لا يفرض أي شيء على أي كان فهو يقترح فقط على كلّ الناس و لا يفرض عليهم و المهمّة التي حدّدها للمسلمين واضحة هيّ نشر الإنسانيّة في العالم وأن يكونوا شهداء على السلم و ليس من باب الصدفة أن تنتهي الآية التي ذكرناها هكذا:» إنّ الله بالناس لرؤوف رحيم « وفي تحليله لهذا اللفظ «رؤوف رحيم» ذكر ابن كثير (1301 1372 )الذي كان مفسّرا تقليديّا ما يلي:» إنّ الرسول صلى اله عليه و سلّم رأى امرأة كانت من بين الأسرى و قد فصلت عن رضيعها منطلقة في البحث عنه و كانت كلّما رأت رضيعا بين الأسرى تأخذه وتضمّه إليها ثمّ تتركه وتواصل البحث وعندما وجدت وليدها ضمته إلى صدرها و وضعت ثديها في فمه ,فقال رسول الله صلى الله عليه و سلّم :هل ترون أنّ هذه المرأة ستلقي بابنها في النار إذا كان في مقدورها أن لا تلقيه,فأجابوا لا يا رسول الله ,فقال:والله,إنّ الله أرحم بعباده من هذه المرأة على رضيعها.» و ينهي الطالبي هذا الباب الذي عنون له ب»إنسانية القرآن ,سياسة خارجيّة سلم و ردع « بالدعاء بالسلم ل»إخوتنا» الحيوانات و كذلك لمنظومة محيطنا البيئي ومن أجل هذا يجب أن نحفظ «الجهد الأكبر»في قلوبنا لنوجّهه لمقاومة نزعاتنا السيّئة. وليس من باب الصدف أن تكون الباب الموالي لهذا الباب في كتاب «غزّة «هو المعنون له ب «دعوا ناقة الله تسقى في سلم وأمان» إذ في هذا الترابط ما يدلّ على حرفيّة التخلّص عند الطالبي و قدرته على إتّباع منهجيّة و سياق له دلالته و أبعاده و مقاصده الأدبيّة و المعنويّة و الفنيّة والشيء من مأتاه لا يستغرب.أمّا باب دعوا ناقة الله تسقى في سلام وأمان فسيعتمد الطالبي على سور الشمس ليبرز ثلاثة محاور هامة اهتّم بها القرآن وهي محور البعد البيئي ومحور علم الفضاء ومحور علم الحياة. رحم الله الدكتور محمّد الطالبي الذي طالما دافع عن الدين الإسلامي وجازاه الله خير جزاء على ما قدّم لنصرة هذا الدين وإبراز سماحته وبعده الإنساني دفاع العلماء بالحجّة والدليل القاطع لا دفاع المتعصّب الذي لا يفقه من أبعاد هذا الدين الذي جاء رحمة للعالمين.