اشترى لنفسه خبزا وتمرا واشترى لفرسه شعيرا، متاع الطريق. كان يسير بفرسه من مطلع الشمس حتى الغروب فإذا ما هبط الليل كان يتوقف، فالسير في الليل كان يمكن أن يعرضه لنقاط التفتيش على طول الطريق. وهو لا يحمل معه هوية. وفي الليلة الأولى طرق باب واحد من العربان وقال له :يا أخي أنا ضيفك هذه الليلة، ونام نوما عميقا لم ينمه منذ أيام وفي الصباح الباكر سحب فرسه وواصل السير. وفي الليلة الثانية لم يصادف بيوت الأعراب في طريقه فقرر أن ينام على جانب الطريق وضع رسن الفرس بيده واستلقى على الأرض منهكا حتى اشرقت الشمس، فنهض من مرقده وتابع مسيرته، وفي الليلة الثالثة كان حظه أسعد، فلقد كان ضيفا عند أعرابي يسكن بيتا من بيوت الشعر على مشارف (سامراء)، وكان لدى الأعرابي عرس في تلك الليلة، وذبيحة فتعشى عشاء جيدا من لحم الأغنام بعد أن عصر معدته أكل الخبز الجاف والتمر، وعند طلوع الفجر ضم عباءته المثقوبة حول جسده و أرخى الزمام لفرسه واخترق أطراف سامراء وتركها قبل أن ترتفع الشمس في كبد السماء، وفي الطريق وجد فلاحين يبيعون (بطيخا) فاشترى عددا منها تعاونه وتعاون فرسه على العطش بالطريق. عندما أوشكت الشمس على المغيب كان قد وصل إلى وادي جنوب (الدور) في منطقة تتوسط مابين سامراء والدور، وكان التعب قد أخذ منه كل مأخذ والبرد يتسلل إلى عظامه ويلسع بأسواطه، جسده، وفجأة وجد سيارتين توجهان مصابيحهما الكشافة إلى عينيه ولم يكن بوسعه أن يتوقف فظل يجدّ السير في طريقه وكأنه لم يلتفت إليهما وإذا به يسمع من يصيح به: قف وإلا رميتك.. حينذاك أدرك أنها سيارات حكومية، ولا بد له من التوقف ومع ذلك حاول أن يوجه فرسه نحو المناطق الوعرة المجاورة في التلال المحيطة بالمكان ولكن فرسه المتعبة لم تستجب له وما هي إلا لحظات حتى كانت السيارتان تحيطان به من كلا الاتجاهين والرشاشات مصوبة إلى وجهه. رغم كل شيء قال في نفسه ربما لا يقصدونني وعلي أن أتماسك حتى النهاية... سحب عباءته على ساقه حتى تخفي الشاش الذي يربط جرحه ونظر إليهم في هدوء أعصاب واتزان كامل دون أن يتكلم صرخ به الضابط من السيارة : ياولد لماذا هربت؟ بذكائه الحاد أدرك على الفور أنه ليس مقصودا وأجابه بسرعة :انتم لماذا ترمونني؟ قال الضابط : نحن هنا كمين للمهربين وأنت ارسلوك حتى تراقب لهم الطريق.... هكذا إذن ما أعجب المفارقة قال له بثبات أكثر :ليس لك الحق في أن ترميني. أنا لست مجرما وهذا الشك الذي انتابك لا محل له. وأفضل طريقة بالنسبة لك حتى تتأكد من شخصيتي خذني الى مركز الشرطة حتى الصباح وحينذاك سوف أدلك على أهلي أين يسكنون؟ و ماذا أفعل؟ قال له الضابط :إذن أعطني هويتك.. بنفس الهدوء والثبات قال له بلهجة مشوبة بالسخرية :يابا نحن هنا العربان لا نحمل هوية. أنا لست ذاهبا إلى المدينة حتى أحمل هوية.. أنا في هذه المنطقة ماذا أفعل بالهوية؟ انفرجت قسمات الضابط وقال له : اجل واضح الأمر الآن غير أنه واصل أداء الدور الذي يقوم به.. وقال للضابط في شيء من الاستخفاف : ما هو الواضح يابا؟ خذوني إلى مركز الشرطة وأنتم تعرفون، ولكن أحد الجنود اقترب منه وقال له : يا بني امضي في طريقك بسلام ولكن أقسم لنا أنك إذا وجدت أحدا بالطريق فلن تقول له إنك شاهدت كمينا هنا. سحب فرسه وركبها وانطلق ركضا بها دون أن يفكر بالالتفات إلى الوراء متوجها صوب مدينة صغيرة اسمها (الدور) تقع على ضفة النهر المقابلة لمنطقة يقال لها «العوينات» التي تبعد عن قرية العوجة – حيث يعيش أهله – بضع كيلومترات قليلة. يتبع