لم يكن هارون الرشيد يسهر على كل صغيرة وكبيرة في شؤون الحكم بل كان يكتفي بالاشراف على امهات المسائل والسياسة العامة للدولة وقد احسن الرشيد في اختيار البرامكة لمساعدته على تدبير الملك، فقد كانوا من اكفأ الوزراء واقدرهم على معالجة المعضلات السياسية، والازمات المستجدة والثورات الخطيرة ولكنه افرط في الاستسلام لهم وترك الحبل على الغارب وقد اظهرت له الايام خطر هذا الاستسلام على ملكه. والواقع ان اخلاق المنصور تشبه الاخلاق المعروفة عن بناة الممالك ومنشئي الدول واخلاق الرشيد واعماله تتفق مع اخلاق الذين يجيئون في ابان الحضارة واستتباب الملك فاولهما يمثل الملك وروعته والثاني يمثل بهاءه وجماله. ولعل كثيرا من الروايات حول سيرة الرشيد جانبت الصواب واتجهت الى المبالغات العجيبة والتهويل المخل بالحقيقة فقد اجمع المنصفون على ان الرشيد كان قائما على امر الدين وممارسا لاحكامه ورغم وجود روايات يمكن الاطمئنان اليها في انه كان يستسيغ الاستماع الى الغناء وقد يصيب من بعض النبيذ مجتهدا او مجازا بفتوى من يثق في فقهه ودينه ولكن دون الوقوع في الاسراف والتأويل الزائد. فقد رمي التاريخ العربي بطائفة من الرواة كانوا يتكثرون بالوان المبالغات الفادحة طلبا للاطراف والاغراب. ولو اعتمدت على بعض الروايات فاحصيت ما اعطى المهدي للشعراء وما اجاز به المهدي الشعراء والمغنيين ما بقي على وجه الارض درهم ولا دينار من كثرة ما ذكروا من ارقام لا يقبلها عقل. ان ما وصل الينا من اخبار التاريخ الموثوق عن الرشيد تجمع كلها على شدة عقله وجودة رايه وحدة ذكائه بل تصوره رجلا عالما فقيها اديبا شاعرا كاتبا خطيبا. وقد ذهب بعض المحللين لما كتب عن سيرة هارون الرشيد الى ان هناك خلطا كبيرا بين الروايات العربية والروايات الغربية المعروفة بالروايات الكنسية الاوروبية فقد اهتمت هذه الروايات بمراسلات الرشيد ومعاصره ملك فرنسا شارلمان وبمراسلات نقفور وعبد الرحمان بن الحكم وهي مراسلات لم تتعد السفارات والمجاملات ان ثبتت صحتها. ان الروايات الكنسية الاوروبية اعطت المراسلات حيزا اكبر من حجمها الحقيقي بكثير ودليل ذلك ان الروايات العربية والتي اشتهر عنها انها لا تغفل شيئا لم تذكر هذه المراسلات، الامر الذي جعل العلاقات، تنحصر في علاقات السفارات او علاقات التجارة الفردية. اراد منها هارون اطلاع الفرنجة على حياة الشرق ومخترعاته وتقدمه العلمي والصناعي والحضاري، في حين اراد شارلمان تحقيق هدف دعائي من ناحية والضغط على البيزنطيين من ناحية ثانية.ان ذكريات الفتوحات الاسلامية وسط فرنسا كانت تفزعه وتزيد من قلقه حول خطر البيزنطيين في الشرق فاراد ان يوجه للبيزنطيين ضغطا عباسيا. كما ان الروايات العربية لم تذكر مراسلات شارلمان وبطريق بيت المقدس التي روجت لها الروايات الكنسية الاوروبية بامر من شارلمان ولعل سبب اغفال الروايات العربية للامر شيء طبيعي لان الدولة العباسية ايام الرشيد كانت من القوة الاعظم في العالم كله في ذلك الوقت فلا يمكن لمثلها ان تعطي امتيازات لاحد مهما كانت وضعيته.لكن شارلمان اراد تضخيم امر المراسلات لاظهار مكانته امام شعبه وكانه من القوة بحاكي الرشيد في قوته وسطوة دولته. يتبع