حينما هبط عاد صدام حسين إلى بغداد، بعد قيام الثورة على عبد الكريم قاسم، صار عضوا في مكتب الفلاحين المركزي وظل يعمل فيه حتى وقع انقلاب عبد السلام عارف على البعثيين، في 18- نوفمبر عام 1963. وفي الشهور الأخيرة من عمر الثورة القصير، استطاع بحسه المرهف أن يلتقط ظواهر طافية على سطح الحياة السياسية أثارت استغرابه ثم ما لبث استغرابه أن أصبح استرابة، ثم غدت الاسترابة يقينا في أعماقه بأن الثورة تمضي إلى حتفها لا محالة. كان غياب الربان الحكيم والحازم يثير قلقه، ويدفعه الإحساس بأن الثورة تقفز نحو مصيرها المجهول والمحتوم وما عزز لديه ذلك الإحساس طبيعة المناقشات التي جرت في المؤتمر القطري الخامس لحزب البعث الذي انعقد في العراق. إذ تبين له أن القيادة منقسمة على نفسها وأسوأ ما في الأمر أن الانقسام لم يكن ينهض على ركيزة أساسية أو إيديولوجية. و قد عايش الخلافات الكثيرة التي كانت تعبّر عن طموحات شخصية للثأر بالسلطة و التفرّد بها. ولم يكن بوسعه أن يصمت، كان مجرد عضو عادي ساعتها. يده بعيدة عن زمام القيادة، غير أنه على الأقل كان يملك الشجاعة والمقدرة ووضوح الرؤية ونزاهة الارتفاع فوق التكتلات. ومع ذلك بدت كلماته غريبة الوقع في آذان سامعيها فمن هو ذلك الذي يأتي الى مثل هذا المؤتمر معتصما بما يؤمن به من مبادئ فقط ويهاجم التكتلات والمصالح الشخصية والضغائن الذاتية ويتحدث بهذه النبرة الموضوعية عن وحدة الحزب وكأنه مبشر جاء يدعو الى الصلاة قوما ضالين؟ لقد مارس هذا الدور عبر كل المؤتمرات الحزبية التي حضرها وصولا إلى المؤتمر القطري. ولكنه رغم كل ما تعرّض له، استطاع أن يصل إلى المؤتمر القومي بالانتخاب. وقد ساعدته على الوصول إليه اللعبة التكتلية نفسها التي غرق فيها الآخرون. فضلا عن أصوات أعضاء المحافظات الذين بدوا في تلك اللحظات العصيبة، حيارى مضيعين لا ناقة لهم ولا جمل فيما يدور حولهم من صراعات لا مبدئية. وعندما وقف في المؤتمر القومي الذي عقد في دمشق كرر نفس قناعاته فيما يتعلق بتشخيص الموقف في بغداد. بل انبرى للهجوم على من اعتبره مسؤولا عن دفع سفينة الثورة للارتطام بالصخور :علي صالح السعدي بوصفه أمينا سرّ القطر. فلقد كان صالح السعدي – كما ظهر جليا أمامه في قاعة المؤتمر – رجل الاندفاع الطفولي بغير حسابات، رجل العبارات الثورية الفارغة وما أكثر ما قتلت العبارة الثورية الفارغة روح الثورة. يومها وقف صدام حسين أمام كل أعضاء المؤتمر القومي السادس – وقال كلمات كالنبوءة :» إنني لا أعتقد أن المؤتمر القومي القادم سينعقد والثورة مستمرة في القطر العراقي». ولم يمض بعدها إلا شهر ونصف شهر، حتى كان عبد السلام عارف يضرب ضربته الغادرة ويفتح أبواب السجون والمعتقلات للبعثيين ويسعى بحماس محموم لتصفية البعث وينفرد وحده – عبر انقلابه – بمقاليد السلطة. كانت الأيام القليلة السابقة على الانقلاب بالغة الدلالة على ما يجري، وما سوف يجري بالنسبة له. فقبل الانقلاب بأربعة أيام كان جالسا في مكتب الفلاحين مع رفاقه من بينهم أحمد العزوز ومحسن شعلان وسيد حسين جبر، وإذا بشخصين يدخلان عليهم وقد صوبا رشاشاتهما نحوهم :ارفعوا أيديكم وسلموا أنفسكم. وبسرعة البرق سحب صدام مسدسه الذي كان يحمله دائما وصوبه نحوهما ما هي القصة؟ لا أحد يجيب ولكن المفاجأة جمّدت أصابعهما وبدا أن أي إطلاق للنار من أحد الجانبين عبر هذه المسافة الصغيرة سوف يؤدي إلى مقتل الطرفين. ولم يكن بوسعهما إلا أن يجريا وهما يطلقان النار خلفهما فأصابا فلاحا اسمه ياسين كان عضوا في اتحاد بغداد للفلاحين. وعندما انتشر النبأ زيفت الحقيقة وقالوا إن صدام هو الذي أطلق النار على الحرس القومي فأصاب واحدا وقتل آخر. يتبع