وذات يوم وهو يعبر جسر الجمهورية في طريقه نحو الباب الشرقي في بغداد في سيارة (زودياك) إذ به يجد أمامه سيارة شرطة بداخلها ضابط برتبة (مقدم) ويتطلع إليه بانتباه وتركيز. ويتحدث في جهاز اللاسلكي بسيارته. ويشير على سيارته بالوقوف. وعلى الفور استيقظت في نفسه كل غرائز اليقظة والحذر والدفاع عن الحياة. وكان يحمل في سيارته على الدوام رشاشا وقنبلتين يدويتين فضلا على مسدسه الذي لا يفارقه. وقال لرفيقه غالب محمود الذي كان يصحبه: « انتبه هي الرشاش وافتح زجاج النافذة قليلا. ولكن لا تطلق حتى أقول لك.. وتقدمت سيارته. وتقدمت معها محاذية لها تماما سيارة الشرطة. وعندما بلغتا نقطة عبور المشاة، إذ بالضابط داخل السيارة ينادي على شرطي المرور ويطلب إليه أن يوقف سيارة صدام. ولكن الشرطي اقترب من الضابط وانشغل في أداء التحية العسكرية له. وفي لمح البصر انفلتت سيارة صدام ومضت مسرعة وغابت وسط الزحام بينما كان الشرطي يتلقى سباب ضابطه لأنه لم يفهم. وفي اليوم التالي كان يجتاز ساحة 14 رمضان في بغداد في سيارة (فولكس فاغن) وتزاحمت سيارة أحد العابرين مع سيارته فإذا بقائدها يسحب مسدسه عليه. فاضطر صدام الى أن يسحب مسدسه هو أيضا وقال: هذا واحد آخر عرفني وأغلق زجاج سيارته وظل جالسا خلف المقود،. فإذا بالرجل يوقف سيارته ويهبط منها حاملا بيده مسدسه متجها نحوه بخطى ثابتة وصرخ فيه صدام على الفور لا تتقدم وإلا قتلتك ماذا تريد يا رجل؟ أبعدني عن شرك. ولكن الرجل المسكين لم يكن يعرف طبيعة الموقف الذي يضع نفسه فيه. فقال له في سذاجة ممجوجة في تلك اللحظة: أنت زاحمتني..قال له صدام : يابا اذهب لم أزاحمك..رد عليه الرجل :ارم مسدسك..أمجنون هذا؟ قال له صدام : إذا خطوت خطوة واحدة إلى الأمام سأطلق النار وخطا الرجل خطوة فإذا بصدام – الهداف الممتاز – يطلق طلقته من فوق رأسه تماما حتى يخيفه دون أن يقتله. فسقط الرجل على الأرض ثم نهض مسرعا وجرى إلى سيارته. ومضى إلى سبيله. واشتد توتر الموقف. وزادت قوات الأمن من هجماتها على كل بيت تظنه فيه. وبالمقابل راح هو يغير أوكاره وأساليبه بهدوء أعصاب وثقة وأمل لا يخمد. وفي تلك اللحظة جاءته رسالة من القيادة القومية تطلب منه أن يغادر العراق. ويتجه نحو دمشق حتى لا يقع في أيدي شرطة النظام ويدخل السجن.. هذا قرار. نظر صدام حسين إلى مندوب القيادة القومية وقال له: يا رفيق..أنا في كل حياتي ملتزم. ولكن هذا القرار وحده لن التزم به..لن أنفذه..إن الالتزام به سوف يؤذي أعضاء الحزب المتبقين ويحط من روحهم المعنوية في وقت هم أحوج فيه إلى من يشد أزرهم ويساندهم، وينفخ في أعماقهم جذوة الأمل. يارفيق..هذا ردي وتحياتي للقيادة القومية. غير أن القيادة القومية وقد واجهها بهذا العناد الصلب اقترحت عليه أن يقوم بتسجيل كلمته بصوته تذاع من راديو دمشق وكأنه هو الذي يذيعها وأعجبته الفكرة. ولكنه بدلا من أن يقول في تسجيله إنه في دمشق. قال بل أنا في بغداد..وأذيع التسجيل من راديو دمشق لكي يسمعه المعتقلون البعثيون ويعاونهم في رفع معنوياتهم في محنتهم القاسية في غياهب السجن والمعتقلات. واشتد الحصار واندفعت قوات الأمن بشكل محموم للبحث عنه. وقلبت المدينة رأسا على عقب. وفتشت كل ركن وقلبت كل حجر لترى ما تحته. ووضعت في أركان الشوارع والساحات، عرباتها المسلحة المزودة باللاسلكي. وشكت في كل شخص واستجوبت مئات وآلاف الناس وأغرتهم وأرهبتهم ،وسقط في النهاية واحد.. لم يصمد أمام التعذيب الوحشي...واعترف أن صدام حسين في بيت(طارق جهاد) وإذا به يجد نفسه فجأة مطوقا من كل جانب هل جاءت اللحظة أخيرا التي يسقط فيها الفارس في حبائل العدو؟ وهل انتهى كل شيء؟ لابد من أن يرفع يديه حتى توضع فيها السلاسل ويقيد من الخلف؟ و مع ذلك لابد من المقاومة. ولكن هل تجدي المقاومة؟ أراد اختبار القوة التي تطوقه فأطلق عددا من طلقات مسدسه فإذا بسيل من الرشاشات يجاوبه من كل ركن..لا..لا معنى للمقاومة المستحيلة هذه المرة والتي لن ينجم عنها إلا ضحايا قد تكون بريئة من الشرطة بالإضافة إلى ما سيتحمله أصحاب الدار الذين يؤوونه من عقاب عندما تسيل الدماء على أبواب دارهم أو في فنائه..لا مفر...وبصوت مدو مجلجل هتف بسقوط عبد السلام عارف.. وبحياة حزب البعث العربي الاشتراكي..وسلم نفسه. (يتبع)