ولكن فجأة اكتشفت الخطة. ووقع هجوم صاعق على أعضاء الحزب أنفسهم في الرابع من سبتمبر، أي قبل الموعد المقرر بيوم واحد. وتأخرت شحنة السلاح. فلم تصل إلا في السادس من الشهر نفسه. وكُشف أمرها وجُن جنون السلطة. فلقد أدركت أن الحرس الجمهوري نفسه، بات مخترقا. وبدأت حملة مسعورة لإلقاء القبض على القيادة التي اعترض عليها بعض الذين قبض عليهم. ووقعوا تحت طائلة التعذيب الوحشي. وشُلّ التنظيم الحزبي من أثر الضربة المفاجئة. وبات عليه أن يبدأ من جديد. في إحدى الامسيات جلس صدام حسين مع عبد الكريم الشيخلي يتدارسان الوضع ويحسبان حساباتهما مرة أخرى وإذا بالساعة تبلغ الواحدة بعد منتصف الليل. فنهض صدام يريد أن يذهب. إلى أين؟ قال : لكي أبيت في الوكر الذي نخفي فيه السلاح. قال له عبد الكريم: إن دوريات الشرطة نشطة في هذه الأيام ومن الأفضل أن تقضي بقية الليل عندي وفي تلك الليلة هوجم بالفعل وكر السلاح وأنقذ صدام بالمصادفة. ولكن لا صدام ولا كريم، كانا يعرفان أن وكر السلاح المركزي قد داهمته السلطة. في اليوم الثاني ذهب إلى «وكر السلاح».وكان وكرا رئيسيا، فيه مركز طباعة ومركز اختفاء لعبد الكريم الشيخلي.وكان معه الشيخلي وطلال الفيصل. هبط من السيارة وذهب ناحية باب البيت، ودق الجرس، وإذا به فجأة يجد مدفعا رشاشا مصوبا نحو خاصرته ومن خلف الباب صوت يصرخ فيه..»قف لا تتحرك». لقد وقع الصيد الثمين فريسة سهلة في أيدي أعدائه غير أن صدام الذي يملك أعصابا قوية وباردة إلى حد لا يصدق وضع قناعا ثلجيا على وجهه وسأله وكأن شيئا لم يحدث: أليس هذا بيت محمد؟ صرخ الصوت من الداخل مرة أخرى: أقول لك لا تتحدث ارفع يدك. وبنفس الاعصاب القوية والصوت المحايد أجابه صدام : أخي ماهي قصتكم؟ رشاشات؟ ماهذا؟ ألا توجد حكومة؟ هل سابت الدنيا؟ وفي نفس الوقت كان يمد يده بسرعة إلى المسدس الذي يحمله. وما إن وضع يده على الزناد حتى صرخ في الشرطي وهو يسحب طلقة من مسدسه : ارم الرشاشة يا كلب..فوجئ الشرطي وقفز من مكانه بيد أن الرصاصة لم تنطلق سحب الثانية ولم تنطلق. فلما أدرك الجندي أن مسدسه لا يعمل، عاد اليه وقد تيقن أنه فاز به غير أنه من فرط مفاجأته الأولى لم يسحب عليه رشاشه. بل بدأ مرتبكا بعض الشيء فأخذ صدام يتراجع إلى الخلف نحو السيارة التي كان يجلس بها (كريم وطلال) وما إن شاهداه في هذا الوضع حتى تحركت السيارة بعيدا عن البيت من فرط مفاجأتهم ومن ثم هبط من السيارة طلال وكان يحمل غدارة نسي أن يضع فيها مخزن عتادها. وسحب صدام طلقة ثالثة ووجهها إلى الشرطي الذي يلاحقه. ولكنها مرة ثالثة لم تنطلق. فأخذ يركض وبيده المسدس حتى ابتعد قليلا عن الشرطي وسحب طلقة رابعة ولكنه بدلا من أن يوجهها إليه قرر ألا يصيبه. وقد ابتعد خطره فأطلقها فوق رأسه فإذا بالشرطي يركض إلى الخلف متوجها نحو البيت لائذا بحياته وركب (صدام) السيارة ومضت به مع رفيقيه. وخيمت على سماوات العراق أيامها سحابات داكنة ثقيلة من الإرهاب الاسود. واعتقل أعضاء القيادة الواحد تلو الآخر ( أبو هيثم) و (عبد الكريم الشيخلي) و(حسن العامري) ومعهم معظم كوادر الحزب المتقدمة وأعداد ضخمة من الاعضاء والأنصار وبات العبء ثقيلا على أكتاف صدام حسين. ولكنه لم يفقد قط الحماسة ولا جرأته الخارقة، ولا أمله. وكان يبدأ حركته ساعة الفجر. ويخرج إلى الطريق مع العمال الذين يتوجهون إلى مصانعهم ومعاملهم إلى ما قبل الثامنة صباحا. وفي الليل عندما تهبط الظلمة وتلف المدينة كان يخرج لأداء واجبه حتى ما قبل منتصف الليل. وفي تلك الساعات تكون وطأة دوريات الأمن أخف وإمكانات الحركة السريعة أكبر. وكان قد برع على كل حال في تغيير هيئته والتنكر الحاذق حتى أن بعض رفاقه ما كانوا يعرفونه إلا بعد أن يبدأ في المباسطة معهم. وكان يشتري سيارات قديمة خردة ويبدل أرقامها ويستخدمها ثم يبدلها. (يتبع)