مرّة أخرى تعود الحياة الوطنيّة الى مربّع الأزمات. وتبدو الأزمة الراهنة الأخطر لأنّها باتت تهدِّد بصفة جدّية المسار الانتخابي وسط تصاعد الاتهامات المتبادلة والمخاوف من عدم القدرة على تنظيم انتخابات حرّة ونزيهة وشفّافة يقبلُ الجميع بنتائجها. فجأة استفاق الرأي العام على تطاحن سياسي جديد على غاية من عنف في الخطاب، بما تواتر من عبارات الكراهيّة والحقد وإثارة متجدّدة لنوايا الإقصاء من هذا الطرف أو ذاك ونوازع تقسيم المجتمع وبثّ الفتن داخله. صحيح أنّ مقترح الحكومة بتعديل القانون الانتخابي يعود الى أشهر ماضية. ولكنّ عرضه على الجلسة العامة بمجلس النواب يتزامن هذه المرّة مع سياق وطني مُغاير أبرزت فيه استطلاعات الرأي المختلفة صعودا غير مسبوق لشخصيات وأحزاب من خارج الائتلاف الحاكم. هذا التزامن أدخل المشهد السياسي والبرلماني في أفق أزمة جديدة رفع فيها أطراف النزاع مقولات متقابلة أساسها توجّس الحكومة بمختلف مكوّناتها من مخاطر الشعبويّة والتعويل على العمل الخيري والإعلام التي تميّز خصال بعض الصاعدين في عمليات سبر الآراء وتخوّفات بعودة الدكتاتورية وصناعة القوانين على مقاس استبعاد المنافسين من الجهة المقابلة. الوضع السياسي سيّئ دونما شكّ. ولا أحد عمل إلى حدّ الآن على تحكيم العقل وإيجاد مخارج هادئة لأزمة ما تزال مقبلة على أطوار أخرى. البعض منها على غاية من الخطورة لأنّها تستهدف استكمال المسار الديمقراطي وتعطيل الانتخابات العامة التي يؤمّل أن تنقل البلاد الى وضع الاستقرار وديمومة مؤسّسات الحكم الديمقراطيّة. السياسة فيها دائما المفاجآت واللامتوقّع. ولكن الادعاء الآن بمواجهة فاعلة وناجعة للشعبويّة وتنقية كليّة للمناخ الانتخابي قد يكون أمرا معقّدا الى أبعد الحدود. إذ ها هو يفتح البلاد على خطر حقيقي، ألا وهو إيقاف المسار الديمقراطي مرّة واحدة. ليس هناك من مواجهة للشعبويّة غير الحصاد الإيجابي لمن هو في الحكم وتحلّي الطبقة السياسية بصفة عامة بالجديّة والأخلاق والتنافس لخدمة المصلحة الوطنية وتحسين ظروف عيش المواطنين، غير ذلك لن تزداد التيّارات الشعبويّة إلاّ صعودا مستفيدة من حالة اليأس والخيبة التي تطبعُ حياة الناس والحنين المتزايد الى الماضي. إنّ مساعي تطويع القوانين وصياغتها على المقاس، مثلما يتبدّى ذلك لدى فئات واسعة من المجتمع والرأي العام المحلي والدولي، هي الأخطر الآن. وعلى عكس ما يتوقّعهُ أصحاب مبادرة تعديل القانون الانتخابي فإنّ ما هم بصدده مفرّخٌ لمزيد التشكيك في الحكومة والأحزاب والسياسيّين عموما، ومزيد تعفين الأجواء ورفع المخاوف من توظيف الدولة ومؤسّسات الحكم المختلفة لهندسة مرحلة ما بعد 2019 عنوة وقسرا وعلى أهواء من بيده مقاليد السلطة الآن. إنّ الحديث عن مناخ انتخابي شفاف تماما وديمقراطيّة تامّة الشروط، هو ضرب من التخييل وتيه في المثاليات. إذ هناك وقائع وسلوكات دائما تُثير الهواجس والمخاوف لم تسلم منها حتى أعرق الديمقراطيّات. ومنها صعود التيارات الشعبويّة وتداخل الإعلام والعمل الخيري في المسار الانتخابي ومحاولات التوجيه بل حتى تزييف ارادة جزء من الناخبين. ولكن لم يكن الحل أبدا حتى في الديمقراطيات الراسخة في تغيير قوانين اللعبة عشية الانتخابات، فذاك تقدير يحتاجُ الى تعديل ومراجعة قبل فوات الأوان.فالديمقراطية يتساوى فيها الجميع. كما أنّ نفس الديمقراطية مكّنت تيارات شعبويّة من الحكم.