إن الوضع الحالي الذي تعيشه بلادنا، بعد حوالي عام ونصف على ثورتها لا يسرّ أحدا. نعم، هناك نقاط مضيئة كثيرة تسمح لنا بأن ننظر الى الغد بتفاؤل، لعل أبرزها أننا أولا نجحنا في تنظيم انتخابات ديمقراطية وشفافة، أسفرت عن انبثاق مجلس تأسيسي وحكومة ورئيس منتخبين، وثانيا أن حياتنا اليومية العادية لم تتأثر كثيرا، رغم أننا عشنا ثورة زلزلت عرش دكتاتورية رزحنا تحت كلكلها ثلاثا وعشرين سنة كاملة... فالمدارس والجامعات مفتوحة تؤدي دورها، وحركة البيع والشراء قائمة، وهياكل الدولة في عمومها تؤدي عملها، والمواد الأساسية وحتى الكمالية متوفرة. ولكن هناك أيضا «نقاط» سوداء تجعل قسما هاما من شعبنا ينظر الى الغد بتشاؤم كبير: فعمليات قطع الطريق والاعتصامات العشوائية، والمطالبات الاجتماعية المشطة والاعتداءات على مقرات السيادة تتواصل بشكل مقلق له تأثير على احساسنا الداخلي بالأمن، وعلى الدورة الاقتصادية للبلاد، وعلى نوايا الاستثمار الداخلية والخارجية فيها، كما أن الوضع السياحي، يبقى مصدرا للانشغال إضافة الى تردي قيمة الدينار. فوضعنا الحالي في عمومه يدفع الى «التشاؤل» أكثر منه الى التفاؤل أو التشاؤم. بمعنى آخر أننا اليوم في مفترق طريقين متباعدتين متعاكستين، فإما نحو بر الأمان، أي نحو مجتمع ديمقراطي تعددي متسامح، مجتمع مؤسسات وقانون، تسعى فيه السلطة المنتخبة ل«إسعاد» شعبها، عبر السهر على مصالحه والمصالح العليا للوطن، أو نحو انتكاسة قد تعيدنا الى المربع الأول.وهذا ما يجب أن تعيه السلطة الحاكمة والمعارضة بمختلف أطيافها. فما يغيب عن البعض هو أن الجميع يوجدون حاليا في خندق واحد لإنجاح هذه التجربة، التي تكاد تكون فريدة في المجتمعات العربية الاسلامية، بحكم خصوصية مجتمعنا وبصمة «بورقيبة» فيه، هذه البصمة التي جعلته شبه منقسم الى شقين، شق اتفق على تسميته ب«اليمين» استسهالا إذ أن التعبير غير دقيق للاحاطة بالمسمى وشق يدعى اليسار أيضا استسهالا ويضم من يسمون بالحداثيين والعلمانيين، ومن ينتمون حقا الى اليسار الماركسي أو الاشتراكي دون أن ننسى بعض التيارات القومية. ان هذا الانقسام، هو في الحالة التونسية من الممكن أن يصبح دليل صحة وإثراء، ولذلك فيجب أن نتصدى جميعا الى المنحى الذي بدأ يتخذه منذ وقت غير بعيد (باعتصام كلية منوبة، وواقعة العلم، أو الاعتداء الخطير على جوهر بن مبارك وتجاذبات قضية "نسمة" الخ...) والذي قد يجعله يتحول الى مؤشر مرض خطير، والى شرخ في المجتمع يصعب تداركه واصلاحه. إن «الوصفة السحرية» ان كانت هناك وصفة سحرية حقا لتجنب هذا المنزلق الخطير، لا يمكن أن تكون إلا الوفاق بين الطرفين، أي بين اليمين دون أقصاه واليسار دون أقصاه أيضا خصوصا وأن «الأقصايين» لا يمثّلان شيئا، شعبيا وانتخابيا، على الأقل حاليا. وبما أن وطنية أي طرف منهما، وكفاحه ونضاله وتضحياته ضد الدكتاتورية، التي توجت بمسار أو «جبهة 18 أكتوبر» ليست محل تشكيك من الطرف الآخر، فإن أرض الالتقاء ممكنة إذا وضعت المصالح العليا للبلاد فوق كل اعتبار، بعيدا عن الحسابات الانتخابية. نعم إنه قد يبدو من السذاجة بمكان أن يطلب مثل هذا التنازل من سياسيين ومن حركات سياسية، بينما السياسة تقوم على المناورة والخديعة، واقتناص عثرات الخصم وتهويلها، الا أن الوضع الحالي لبلادنا، الدقيق والانتقالي، يفرض العديد من التضحيات والتنازلات من الطرفين، لتأمين المسار الديمقراطي والوصول بالتجربة الى بر الأمان. فمثل هذا التمشي لن يكون فيه في نهاية المطاف خاسرون ورابحون، فهو سيسمح اولا بتحييد ثم استبعاد تلك الحركات الطفيلية الشعبوية الفلكلورية، التي تحاول استبلاه شريحة من الشعب والمزايدة على الجميع دون أي ضابط، بتقديم وعود لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع، كمجانية النقل والعلاج والتشغيل الكامل، و«الأنفاق تحت البحر» لربطنا بأوروبا، لتأمين «الحرقة» للجميع!! وغير ذلك من الاكاذيب المماثلة، فالانظمة التي طبقت البعض منها، خرجت كلها تقريبا من التاريخ. إن مثل هذا الوفاق ليس أمرا صعبا على رجال وحركات كانوا في خندق واحد زمن الجمر. فعلى أحزاب «الترويكا»»، وفي مقدمتها «النهضة» بما أنها «حاكمة»، أن تعطي ضمانات كافية، بأنها ليست من نوع الاحزاب التي تعتبر الانتخابات مصعدا تستعمله مرة واحدة للوصول الى الحكم ثم تحتفظ به، وذلك بتعميق التشاور في شؤون الحكم والبلاد، مع جميع الاطراف في الواجهة وفي الكواليس والابتعاد عن عقلية اعتبار الحكم «خبزة قاطو» يتقاسمها أنصارها، وذلك بتوسيع قاعدة الاختيار لكل المناصب وحتى «السياسية».. الى المستقلين والى قطاعات عريضة من المعارضة، وذلك لطمأنة الرأي العام، وخصوصا «خصومها» السياسيين، ولتقاسم أعباء الحكم في هذه المرحلة الصعبة، التي تمثل فيها السلطة «كعكة قاطو» مسمومة. كما أنه على «النهضة» أن تتخذ موقفا واضحا لا لبس فيه من الحركات السلفية وتمظهراتها العنيفة، وأن تقطع كل حبالها بها. وقد مثّل الحديث الذي أدلى به السيد علي العريض وزير الداخلية مؤخرا الى جريدة «لوموند» خطوة في هذا الاتجاه، إلا أنها لم تتبعها خطوات أخرى في اتجاه تجسيم قطيعة واضحة، مع تيار ينادي بالعنف ولا يتوانى في استعماله، غارسا في البلاد جوا من الارهاب الفكري لدى النخب والاحساس بعدم الأمن لدى الجميع. خصوصا وأن ضرر هذا التيار على المصالح العليا لبلدنا تجلت من خلال المخاوف التي أصبح يعبر عنها بعض شركائنا الأوروبيين الرئيسيين كألمانيا وايطاليا وفرنسا، اثر «فضيحة» الدعوات لقتل اليهود التي لا تشرّف بلادنا البتة، والتي من شأنها عرقلة مساعي انعاش السياحة، مما يجعلها تدخل في خانة محاولات اجهاض الثورة. كما أنه على «النهضة» أن تكف عن حملاتها التي التحق بها مؤخرا للأسف رئيس الجمهورية! على الإعلام وخصوصا العمومي. إن ما يمكن أن يعتبره البعض «انفلاتا» إعلاميا، هو أمر عادي بعد سنوات طويلة من الكبت، انفتحت فيه شهية الجميع لكي يصبحوا «أبطالا» لدى الرأي العام بعد عقود من التهميش و«الحقرة»، كما أن البلاد تعاني حاليا من فراغ تشريعي كبير في مجال الاعلام، وخصوصا في باب مصادر تمويله وشفافيتها، مما جعل العديد من أزلام النظام البائد يصدرون عديد العناوين لإرباك الثورة، تعاضدهم في ذلك وسائل الإعلام التي خلقها وغذاها بن علي، وهذا ما يجب أن يتفطن له السيد راشد الغنوشي ومستشارو رئيس الحكومة والدكتور المرزوقي وغيرهم، لا أن تتوجه «المعاول» نحو الإعلام العمومي، فالإعلام العمومي في الديمقراطيات العريقة هو دائما الأشد نقدا للحكومة وأدائها، لأنه «مموّل من طرف دافعي الضرائب»، ولا يعاني من الضغط المادي المسلط على الإعلام الخاص. أما المعارضة فالمطلوب منها أن تبتعد عن سياسة محاكمة النوايا، فهى أنها استراتيجية خاسرة لا محالة، من شأنها أن تعود عليها بالوبال قبل غيرها، اذ أنها بذلك تضع «خصمها»، في موضع الضحية وتغذي التعاطف معه، فالمواطن أي الناخب الذي تتوجه له ليس ذلك الذي تتوجه له الحركات الشعبوية الفلكلورية وهي معروفة دون أن نسميها بل هو مواطن قادر على فرز الغث من السمين، وهو لا يحب من يستبلهه إما بالتجني أو بالتهويل. اذ يجب ألا يقع لثورتنا ما وقع للثورة الإيرانية، فإثر وصول الخميني للحكم عرفت ايران مباشرة ربيعا ديمقراطيا حقيقيا، ولكن معظم الدول العربية والاسلامية اضافة الى اسرائيل، والقوى العظمى واجهتها بالعداء وتآمرت عليها لاجهاضها، وكان أن توجت المؤامرة بالحرب العراقية عليها التي استنزفتها اقتصاديا على امتداد ثماني سنوات، ولكن الأخطر من ذلك أنها أيضا ونظرا لوجود عدو خارجي مشترك وحالة حرب دفعتها لأن تأخذ المسار الذي نعرفه جميعا، من تضييق على الحريات وعلى النشاط السياسي والحزبي. أي في كلمة دفعت الى تصلب النظام، وهو منحى فرضته في البداية حالة الحرب هذه. أي أن الثورة الإيرانية هي مشروع لم يكتمل، وهذا لا يعني اطلاقا أنه من المؤكد أن ايران كانت ستتبع حتما مسارا ديمقراطيا لو لم تقع الحرب، إنما يعني أن بعض القوى خصوصا الخارجية، حرصت على ألا تُعطى لها للأسف أية فرصة، لنر بعد ذلك ونقيّم. ونحن أيضا يجب أن نعي رغم أنه لا حرب خارجية تهددنا أن من مصلحة الجميع أن تُعطى الفرصة لمن أفرزهم صندوق الاقتراع، لكي يمكن الحكم لهم أو عليهم بموضوعية وتجرد عندما تدق ساعة الحساب، أي الانتخابات. إنه لمن الثابت أن الحركة السلفية تساهم في ارساء حالة احتقان دائم في البلاد، عبر تمظهراتها العنيفة، إلا أن المعارضة وشخصيات المجتمع المدني مدعوة هي أيضا أن تحرص بدورها على عدم تغذية الاحتقان في اتجاه معاكس، وذلك بالامتناع عن إثارة قضايا محسومة سلفا بالنسبة للرأي العام في بلادنا، أي أن تمتنع عن اثارة بعض القضايا التي من شأنها استفزاز وتجييش الرأي العام، والتي يستغلها متطرفو «أقصى اليمين» والخروج من بوتقة عزلتهم بكسب أنصار جدد، ما كان لهم أن يكسبوهم بوسائلهم الخاصة. فالمثلية الجنسية مثلا وما شابهها من «القضايا»، يحيط بها اجماع شبه مطلق لدى التونسيين يفرض تجاهلها، ولئن كانت عقوبة الاعدام أيضا وغيرها من «القضايا» لا تحظى بنفس الاجماع، فإنه من الثابت أنها تحظى بأغلبية مريحة جدا، ومن الأفضل أيضا «نسيانها» حاليا، خصوصا وأن مثل هذه العقوبة لم يتم تنفيذها فعليا منذ حوالي عشرين عاما. وكل هذه «القضايا» المفتعلة في مثل هذا الظرف على الجميع تجنّبها، فهي لا تمثل أية أولوية أمام المشاكل التي نعيشها، وتعمد إثارتها يمثل تهييجا للمشاعر وتغذية للاحتقان لا غير. وعلى ضوء ما سبق، فإنه لا بد من تصور جديد لعلاقة السلطة بالمعارضة، يقوم على الحوار والتشريك من هذا الجانب، وعلى الابتعاد عن سياسة ليّ الذراع و«الشيطنة»، ومحاكمة النوايا من الجانب الآخر، حتى لا تضيع الهدية التي منحها الشعب للجميع بثورته.