أعلنت مصالح رئاسة الحكومة أوّل أمس عن تأسيس حزبين جديدين ليرتفع عدد الأحزاب إلى 218 حزبا، وهو رقم مرتفع جدًّا كفيل بتفسير ما عليه الحياة السياسيّة في بلادنا من تيه وفوضى وتداخل وغموض على أكثر من مستوى. إنّ الأحزاب هي عماد الديمقراطيّة، بما فيها من تنافس وقدرات للتداول السلمي على السلطة والاضطلاع بمهام الحكم والمعارضة في آن واحد، ومن ثمّ تحقيق استقرار الدولة وديمومة مؤسّساتها وتأمين نجاعتها في خدمة شؤون الناس وحماية الوطن ورعاية مصالحه، ولكن في بلادنا غدت الأحزاب أشبه ما يكون بالحوانيت التي يرغبُ أصحابها في تحقيق المصالح والبحث عن الجاه والتموقع وكسب المغانم. وما يجري حاليا في أكثر من جهة دليل على ما بلغته الثقافة السياسيّة من ترذيل وتنازع غير مقبول ولا مفهوم إلاّ من ناحية ضيق التفكير لدى الجزء الأعظم من الطبقة السياسيّة الراهنة وتضاؤل منسوب خدمة الوطن والمصلحة العامة للبلاد لديهم في مقابل ازدياد منسوب النهم والغنيمة لدى غالبيتهم. أصبحت الاحزاب عندنا كالفقاقيع، تتناسل من بعضها البعض وتتكاثر كالخلايا السرطانيّة تعبثُ بمسار الانتقال الديمقراطي وسلامته واستقرار الحياة الوطنيّة ومناعتها واستعادة الدولة لمكانتها ودورها المحوري، ولا شيء يُدلّل على استفاقة قريبة للمشتغلين بالشأن السياسي لعلاج هذا الداء وتجاوز مطباته الخطيرة في تشتيت الجهد الوطني والتلاعب بمصالح البلاد والعباد. لا يحتاجُ بلد كبلدنا هذا الكمّ الهائل من الأحزاب ولا يقبلُ واقعنا كلّ هذا التشتَت وكلّ هذه الفوضى، وهذا ما يستدعي منطقيا اعادة صياغة القوانين المنظمة للحياة الحزبيّة وتفعيل الاشكال الرقابية اللازمة لإيقاف هذا العبث الذي أوصل جزءا كبيرا من المواطنين إلى لعن الاحزاب والسياسة وأهلهما، ومكّن قوى شعبويّة ولوبيات وقوى نفوذ اقليمية ودوليّة للتغلغل في النسيج الوطني تحت عباءة الخدمة الاجتماعيّة أو المساعدات الخيريّة أو غيرها. إنّ ما انتشر في بلادنا من مظاهر غريبة وألاعيب وما تفشّى فيها من أجندات مشبوهة ومال فاسد سببهُ الرئيسي الأداء السلبي المخجل لغالبية الأحزاب وهذه الفوضى لمكوّنات منحها الدستور سلطة إدارة الشأن العام وتصريف شؤون الدولة والمجتمع، ولكن للأسف أضحى التحزّب عنوانا للطمع والنهب والنهم وتحقيق المصالح الضيّقة الفئويّة والشخصيّة وممارسة كلّ السلوكات المشينة من سمسرة وسياحة برلمانية وفساد واستغلال نفوذ ومحسوبيّة ورشوة وكذب ونفاق. إنّ المشهد على ما هو عليه خطير ولا شكّ في استفادة قوى منه بل ربّما هناك من يدفع إليه دفعا، لذا لن ينصلح حال البلاد، كما سيبقى مسار الانتقال الديمقراطي متعثّرا خاضعا للأهواء والنزوات وصراع الزعامات وتنازع اللوبيات ومجموعات المصالح ورغبات الاطراف المعادية للثورة والديمقراطيّة، إلى حين تشكّل مشهد حزبي يعكسُ بشكل واقعي التنوّع السياسي والأيديولوجي للمجتمع التونسي دون إفراط ودون حسابات ضيّقة ويُبنى على قاعدة التجميع، لا مزيد التشتيت، وتوضيح الرؤى والمقاربات الفكريّة لا مزيد الإمعان في التفاهة وإفساد السياسة وتهديد مستقبل التجربة الديمقراطيّة.