في مشهد تَقشعرّ له الأبدان استعاد الجزائريون الزعامة الإفريقية على حساب السّينغاليين الذين كانوا أوّل المُهنئين خاصّة أن فريق بلماضي هزمهم مرّتين في ال»كَان» ما يؤكد أن الأشقاء هم الأجدر والأحق باللّقب. أمواج الفرح بدأت في القَاهرة قبل أن تغمر قلوب أكثر من 40 مليون جزائري يَتقاسمون حب البلاد ويتوزّعون على 48 ولاية مُتماسكة ومُتلاحمة رغم الأزمات و»الأعوام السّوداء» التي عاشها جَارنا. هذه الفرحة الهِستيرية لم تقتصر على أبناء البلد في سطيف والشّلف وتلمسان ووهران وبجاية وقسنطينة بل أن السّعادة ملأت قلوب العرب والجزائريين المُغتربين والمُنتشرين في كلّ بقاع الدنيا. وقد قدّم الأشقاء تجربة تستحق الوقوف عندها ولِمَ لا الإقتداء بها طالما أنّها كانت نَاجحة. لاعبون برتبة «مُحاربين» لقد كانت فرحة الجزائريين باللّقب الإفريقي عارمة وخارج السيطرة أحيانا. وهذا الأمر مفهوم بحكم أن الأشقاء انتظروا قُرابة ثلاثين عاما للحُصول على نجمتهم القارية الثانية بفضل محرز والبلايلي وبونجاح ومبولحي... وغيرهم من الأبطال الذين حقّقوا حلم الأجيال. هذه الكأس لم تقض على عقود «الجَفاف القاري» فحسب بل أنها جاءت في ظرف دقيق وتحتاج فيه جارتنا الغَالية إلى مثل هذه الفرحة التي من شأنها أن تمنح الشعب الجزائري جُرعة أوكسيجين كتلك التي غَنمناها نحن في فجر الثّورة بفضل لقب ال»شَان» (بقيادة ابن البلد سامي الطرابلسي). وتَتضاعف أهمية ورمزية هذه الكأس الافريقية في ظل تزامنها مع شهر الإستقلال في بلد المليون ونصف المليون شهيد. ولاشك في أن الاحتفالات «الأسطورية» والعَفوية في العواصم العالمية وبصفة خاصّة بَاريس الفرنسية فيها الكثير من الدلالات والإشارات عن الروح العالية للجزائر التي ناضلت وكافحت لتنعم بالحرية وتعيش في أمن وسلام. وهذه الروح القتالية والمشاعر الوطنية الجيّاشة كانت أحد أبرز وأقوى الأسلحة التي راهن عليها الفريق الجزائري لكسب «المَعركة» الافريقية والخروج من مصر بالكأس. وقد شاهد العَالم بأسره العزيمة الفُولاذية التي أظهرها «محاربو الصّحراء» حتى أن بونجاج انفجر بالبكاء لإهداره ضربة جزاء كان لاعب «السدّ» يخشى أن تتسبّب في ضياع الحلم و»خِذلان» الشعب الجزائري الفخور بكلّ «جُنوده» بعد أن سكبوا الكثير من العَرق وضحّوا بأجسادهم وسالت دماؤهم من أجل تشريف «المَريول» وهو ما حصل مثلا مع جمال بلعمري في لقاء «الفِينال» شخصية بلماضي قد يقول الناس إنّ «القرينتا» وحدها لا تضمن النجاح وهذا التحليل صائب وصحيح بنسبة ألف بالمائة لأن الروح الإنتصارية التي اتّسم بها أداء الأشقاء هي مُجرّد حلقة من عدّة حلقات أخرى ساهمت في هذا النّجاح. وبالتوازي مع العطاء البطولي للاعبين دفاعا وهُجوما هُناك عقل مُدبّر نجح في تفجير الطاقات والحديث عن المدرّب جمال بلماضي وهو قائد بألف رجل. وقد دافع بلماضي عن منتخب بلاده كلاعب وخبر الأجواء في الجزائر وعايش منذ طفولته مُعاناة وتطلّعات المهاجرين الجزائريين في «بلاد العكري» التي تُوقظ فيهم بين الحين والآخر شعور الثورة والإصرار على تجاوز الواقع مهما كانت العراقيل. ومن يُتابع تنقلات وجولات بلماضي بين الجمعيات الفرنسية والإسبانية والأنقليزية والقطرية وما عرفه من «تمرميد» أثناء مسيرته كلاعب يدرك حتما أن الرجل يملك شخصية حديدية وهي من الخصال التي انعكست في مرحلة مُوالية على أداء الفرق والمنتخبات التي درّبها. وبلهجتنا التونسية يمكن القول إن بلماضي:»جيعان كرة» بما أنه جاب أوروبا وذهب إلى قطر ولم يجد حرجا في الجلوس على البنك أحيانا أوحتى تدريب المنتخب الرّديف للقطريين قبل أن يُصبح من المدربين التاريخيين في «الدّوحة». ورغم أن العمل في الخليج كان يدرّ عليه ذهبا فإن «البترودولار» لم يُفسد أخلاق بلماضي ولم يُشبع نَهمه للأمجاد الشيء الذي دفعه إلى قيادة منتخب بلاده وهو على يقين بأن المَهمّة عَسيرة إن لم نقل مُستحيلة. في ظرف عام واحد احتاج بلماضي إلى عام واحد ليصنع التاريخ ويُحرز الكأس الإفريقية التي كانت من الأمنيات البعيدة بدليل أن الإتحاد الجزائري للعبة كان يطالب في المَقام الأول بالترشّح إلى «كان» 2019 وتجهيز منتخب عتيد لكسب الرهان في مُونديال 2022 في الإمارة القطرية. ولم يكن أكبر المتفائلين يتوقّع أن تسحق الجزائر الجميع وتعود من مصر باللّقب خاصّة أن الترشيحات كانت تصبّ في مصلحة عدّة قوى أخرى مثل صاحب الأرض والجمهور والمغرب والكامرون والسينغال. بلماضي لم يهتمّ بالتَكهّنات و»الخُزعبلات» الصّادرة عن المحللين و»الدجّالين» من نوعية محسن العيفة ولم ينظر مدرب الجزائر لترتيب «الفيفا» التي تضع السينغال وتونس في صدارة المنتخبات الإفريقية وإنّما انصبّ التركيز على تكوين فريق يلعب بقلب رجل واحد. هذا الفريق يملك دفاعا «اسمنتيا» حتى أن شباكه لم تهتزّ إلاّ في مُناسبتين وخلف هذا الدفاع «سدّا عاليا» اسمه رايس مبولحي الذي نقش على قفازاته اسم والدته المُتوفّاة وفي قلبه اسم الجزائر التي منحته شرف الإنتماء (قد يخفى على البعض أن مبولحي له أصول كونغولية من جهة الأب). وبالحديث عن حراسة المرمى نشير إلى أن بلماضي راهن على مبولحي رغم تقدّمه في السن (33عاما) ليقينه بأهمية هذا المركز الذي قد يُساهم صاحبه في حصد الألقاب أويحكم على فريقه بالإخفاق وهذا ما عشناه نحن مع بن مصطفى وحسن وبن شريفية ويُوثّق التاريخ أيضا حالة أخرى عصية عن النسيان بخصوص الأخطاء القاتلة لحرّاس المرمى. ويتعلّق الأمر بمنتخب البرازيل في مُونديال 1982 حيث كان منتخب «الصّامبا» يملك في تلك الدورة جيلا مُميّزا ومرشّحا لإكتساح الجميع لولم «يخذله» حارسه «والدير بيراز». الصلابة الدفاعية للجزائريين اجتمعت مع النجاعة الهُجومية حيث سجّل الأشقاء 13 هدفا في 7 مباريات كانت خلالها تشكيلة بلماضي واضحة ومستقرة ولا تتغير إلا عند الضرورة كما حصل في اللقاء الثالث من الدور الأول أمام تنزانيا حيث كانت الفرصة سانحة لتشريك الإحتياطيين بعد أن ضمن الفريق الترشّح إلى ثمن النهائي. وبنك الإحتياط يحفل لوحده بالدروس والعِبر ويكفي أن نشير إلى أن نجما مثل ياسين ابرهيمي يجلس ضمن البدلاء رغم أنه من الأسماء الثقيلة والمعنية بحمل شارة القيادة. لقد نجح بلماضي في إلغاء كِذبة النجومية وتمكّن من زرع ثقافة المجموعة حتى أنك لا تكاد تشعر بأن لاعبا عالميا مثل رياض محرز أفضل درجة من بقية زملائه مثل بونجاح وبن ناصر وفيغولي والبلايلي العائد من عالم «الكُوكايين» إلى المجد القاري. وقصّة يوسف ليست سوى عيّنة صَغيرة عن الحكايات المثيرة لهؤلاء الأبطال وفيهم من عاش مآسي التفكّك الأسري مثل مبولحي ومن عرف اليُتم على غرار محرز (صحيح أن لاعب مانشستر سيتي يعيش رفاهية كبيرة ويملك سيارة يُقدّر سعرها حسب البعض ب 178 ألف أورو لكن هذا «العزّ» لم يجعله يَتقاعص عن طلب المجد مع المنتخب أويدخل في صراعات صِبيانية من أجل شارة القيادة وما شابه ذلك). دور الجامعة بالتوازي مع المردود البطولي للاعبين والبصمة الفارقة للمدرب بلماضي هُناك عنصر آخر ساهم في هذا النّجاح وهو حتما الجامعة. ويُحسب للإتحاد الجزائري اختياره المُوفّق لجمال بلماضي الذي انتصر للمدرب الوطني وأهدى الجزائر لقبا غاب عنها منذ 1990: أي من عهد رابح ماجر وفضيل مغاريا وجمال مناد ومعهم القائد الوطني الراحل عبد الحميد كرمالي. لقد جرّب الأشقاء «جيشا» من المدربين خلال الأعوام الأخيرة وتعاقدوا مع فنيين من فرنسا وصربيا وبلجيكا لكن دون جدوى. وقد أدرك أهل الدار أن المنتخب الجزائري ينطبق عليه مثلنا الشعبي المعروف: «وِلدها فوق ظهرها وهي تلوّج عليه». والحديث طبعا عن جمال بلماضي الذي أعاد الإعتبار للمدرب الوطني مثله مثل صديق طفولته وخصمه في «فينال» ال»كان» وهو السينغالي «آليو سيسي» (الجدير بالذِّكر أن الجزائر هي الفريق العربي الوحيد الذي اعتمد على مدرب محلي من بين المنتخبات المشاركة في ال»كان» وهي مصر وتونس والمغرب ومُوريتانيا). وبالعودة إلى الإتحاد الجزائري نشير إلى أنه لم يُوفّق في وضع المدرب المناسب في المكان المناسب فحسب بل أن مكتب خير الدين زطشي حقّق الإمتياز من خلال التحضير الجيّد للكأس الإفريقية والتركيز على الميدان لا الإنشغال بالكواليس والتحكيم والصّراعات الجانبية مع رئيس ال»كاف» (كما حصل مع المغرب وتونس). والأجمل من ذلك أن جامعة خير الدين زطشي فتية بما أنها تسلمت مَهامها في 2017 وتستحق للأمانة تحية تقدير لنجاحها في حصد اللقب الإفريقي في ظرف زمني وجيز. هذا في الوقت الذي خاضت فيه جامعتنا الموقّرة أربع نهائيات افريقية بالتمام والكمال دون تحقيق حلم التونسيين. ولن نقدّم طبعا صورة «مثالية» عن الكرة الجزائرية التي تعاني أيضا من عدة مشاكل لكن لا أحد ينكر حنكة إتحاد زطشي في كسب التحدي ورفع اللقب وهو ما عجز عنه سلفه محمّد روراوة رغم نفوذه الواسع ورئاسته للجامعة لفترة طويلة. وفي الختام نقول إنه لكلّ منتخب وبلد خُصوصياته لكن هذا لا يمنعنا من أخذ النقاط الإيجابية التي ميّزت «التجربة الجزائرية». وما خاب من اتّعظ من دروس الناجحين.