بصرف النظر عن الوجاهة الموضوعية في تعديل القانون الإنتخابي من عدمه ومدى ملاءمته للواقع السياسي خصوصا من حيث الظرف الزماني ودون الخوض في نية التعديل إن كانت إقصائية لبعض الشرائح والشخصيات السياسية من عدم ذلك، فإن رئيس الجمهورية وهو الشخصية المعنوية العليا في البلاد عندما رفض ختم القانون المذكور قد مارس ما له من صلاحيات منحه إياها دستور 2014 الذي اعتبره البعض آنذاك دستورا نموذجيا ونال عند ختمه من الفحيح والصفير الشيء الكثير في قبة البرلمان وخارجها. وهذا الرفض، إن حصل حقيقة لانعدام أي أثر ملموس لذلك، يبقى رفضا ضمنيا واعتبره شخصيا بمثابة مناورة أو رد فعل أو فيتو عاقب به الرئيس من سعى إلى تقزيم دوره في المدة الأخيرة والتبجح بعدم إمكان قدرته على التأثير في مجريات الأحداث السياسية بالنظر إلى صلاحياته المحدودة فضلا عن حالته الصحية وما رافقها من لغط معيب وتأويلات خبيثة وجميعها لم تكن تصب في مصلحة الدولة المعطوبة إقتصاديا وإجتماعيا وسياسيا لا في الخارج ولا في الداخل وكادت أن تحدث بلبلة في البلاد وحريقا سياسيا على غرار حريق الغابات آنذاك. وإذا ثبت الرفض بصورة واضحة وجازمة يجوز القول بأن الذوق القانوني هذه المرة لم يكن إلى جانب رئيس الجمهورية بل كان مفقودا ضرورة أن الفصل 121 من الدستور كان واضحا وصريحا في أن قرار المحكمة الدستورية (الهيئة الوقتية حاليا) يكون معللا وملزما «لجميع السلطات» وينشر بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية والمقصود هنا بجميع السلطات هي السلطات الثلاث في الدولة ألا وهي التنفيذية والتشريعية والقضائية على حد سواء وبالتالي كان من باب الذوق القانوني السليم الإلتزام بالختم خاصة وأن الفصل 146 واضحا بدوره في أن أحكام الدستور تفسر ويؤول بعضها البعض كوحدة منسجمة. لكن إذا لم يقع نشر قرار الهيئة الوقتية ومعللا بالرائد الرسمي يمكن تفهم موقف رئيس الجمهورية اعمالا لمبدإ التماثل في الإجراءات أو ما يعبر عنه في القانون المدني بالدفع بعدم التنفيذ l›exception d›inexécution هذا على سبيل الاستدلال فقط. ومهما يكن من أمر وبعيدا عن التعمية والتضليل والسفسطة السياسية، فإن كان هناك عيب فيعود بالأساس إلى صياغة الدستور وإلى نواقصه الظاهرة والخفية خاصة وأن الفصل 81 منه والمتعلق بختم القوانين لم يتضمن أي جزاء صريح sanction solennelle لرفض الختم refus de promulgation كما لم يتضمن أي جزاء واضح لرفض النشر refus de publication وهي آليات مختلفة ولئن كانت مترابطة، إذ أنه من الممكن وعلى سبيل الافتراض أن يتولى رئيس الجمهورية ختم القانون دون نشره بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية أو تأخير نشره ويكون الختم والحالة تلك في حكم المعدوم لانعدام نتائجه القانونية وبالإضافة إلى ذلك فإن الدستور لم يتضمن أي مخرج échappatoire في صورة حدوث مثل هذا المأزق blocage. وجدير بالذكر أن هذه الوضعية ليست حكرا على تونس وحصلت مع أكبر الديمقراطيات في العالم وأذكر من ذلك فرنسا في عهد الرئيس فرانسوا ميتران وغيره... المشرع التأسيسي كان فطنا ونظم هذه المسألة في القانون المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 الذي نص في فصله 11 صراحة أنه في صورة عدم ختم ونشر القانون من طرف رئيس الجمهورية في أجل قدره 15 يوما من تاريخ الإيداع لدى مصالحه يتولى المجلس النيابي إعادة المصادقة على القانون بنفس إجراءات المصادقة الأولى ثم يتم ختمه من طرف رئيس المجلس وطبعا يأذن بنشره. وهذه المسألة قد غابت عن المشرع الدستوري في سنة 2014 ولا أتصور أن ذلك كان مقصودا ولغاية في نفس يعقوب كما يقال. والسؤال المطروح، هل بالإمكان اللجوء إلى الفصل 88 من الدستور الذي يمكن أغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب من إعفاء (سحب الثقة) رئيس الجمهورية على أساس «نظرية» الخرق الجسيم للدستور وذلك بعد استيفاء إجراءات مخصوصة أهمها عرض المسألة على المحكمة الدستورية بعد تصويت البرلمان على لائحة الإعفاء وأنه عند ثبوت «الإدانة» بعبارة النص، هكذا بلغة ركيكة ، تقضي المحكمة بالعزل مع فقدان الرئيس لحق الترشح لأي إنتخابات أخرى مع إمكانية التتبعات الجزائية عند الاقتضاء. ونظرية الخرق الجسيم للدستور هذه مسألة غاية في التعقيد والخطورة بالنظر لآثارها القانونية فضلا عن كونها مسألة اجتهادية متروكة بالأساس للاجتهاد المطلق للقضاة وهنا تكمن أهمية الم حكمة الدستورية في النسيج المؤسساتي ومنه في النسيج السياسي اليوم وغدا ولذلك تعطلت تسمية أعضائها لتصارع المصالح الحزبية. والسؤال الثاني، هل بإمكان الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين أن تنتصب محكمة دستورية؟ بقراءة بسيطة وبالنظر إلى ما تضمنته الأحكام الانتقالية الواردة بالدستور يمكن القول بذلك خاصة وأنها تبوأت منزلتها في عديد المناسبات وأنه بالقانون تنتهي مهامها بإرساء المحكمة الدستورية بعد إتمام تركيبتها، لكن بقراءة أكثر عمق للفصل 148 فقرة 7 من الدستور يتضح أن المشرع استعمل كلمة «تختص» وبالتالي فإن الهيئة الوقتية «مختصة» فقط بمراقبة دستورية مشاريع القوانين ولا يمكنها حينئذ أن تنتصب محكمة دستورية وبناء عليه لا مجال للحديث عن تطبيق آلية سحب الثقة من رئيس الجمهورية على معنى الفصل 88 من الدستور. وتجدر الإشارة في النهاية وأنه لا مانع من ختم هذا القانون في زمن لاحق قد يطول وقد يقصر، فليس هناك أي مانع دستوري فضلا عن كون السياسة مصالح تتغير بحسب الأحوال والظروف... الطاهر بن تركية (رئيس دائرة جنائية بمحكمة الإستئناف بتونس)