غادرنا، المغفور له بإذن الله، محمد الباجي قائد السبسي، أوّل رئيس جمهوريّة انتخب انتخابا حرّا ومباشرا، وشهدنا أمس موكب توديعه الذي أثبت زعامته وإشعاعه الدولي المرموق وحبّ الشعب له. الموت جللٌ وشيء عظيم، صحيح أنّ فيه الغياب الجسدي والمادي، فلن نسمع من سي الباجي خطابا أو كلمة جديدة. ولن يلتقيه ولن يُجالسه أحد مرّة أخرى. ولكنّ الموت يحقّق العدالة. ويؤسّس لمعاني الحق وينشر الحقيقة كما هي. وقد فعل الموت فعله مع رئيسنا الراحل فقد أبرز لنا حقيقة هذا الرجل الفذ والمتفرّد والاستثنائي. ولا شكّ في أنّ مشاعر الخيبة والغُبن تسكن الآن نفوس الكثيرين من الذين أضاعوا عن بلادنا استثمارا مثاليا لما كان لدى سي الباجي من خصال عظيمة ومآثر ستبقى خالدة. فجأة جاء الموت منتصرا للسيد الرئيس رافعا له إلى أعلى المراتب ناشرا سيرته الرائدة والمتميزة والتي أشاد بها ضيوف تونس من الرؤساء وممثلي الدول الصديقة والشقيقة، إلى الدرجة التي يقرّ فيها البعض بكونه قد تعلّم الكثير من رئيسنا. ما شاهدناه أمس في موكب التأبين والجنازة والدفن، مع ما عاشته البلاد منذ يوم وفاته، كرّس هذه المكانة المتميزة والرفيعة للباجي قائد السبسي لدى التونسيّين وفي العالم، هذه المكانة التي كادت تذهب سدى في خضم صراعات سياسيّة مجنونة وتلاعب بالقيم والمبادئ، حتى لكأنّ الموت جاء ليرفع تلك الغشاوة ويُكرم الرجل بما يستحقّه وبما هو به جدير. سيكتب المؤرخون سيرة الباجي قائد السبسي بالروح العلمية والموضوعية المطلوبة. ولكن ما هو ثابت الآن بالوقائع أنّ شخصية سي الباجي قد طبعت عمليا وفعليا تاريخ الجمهورية الأولى ودولة الاستقلال وأيضا تاريخ الجمهورية الثانية والدولة السائرة نحو الديمقراطيّة. لدى الجيل الحالي تبدو الصورة واضحة وجليّة. فبصمات الباجي قائد السبسي طبعت بشكل واضح مرحلة ما بعد الثورة التي دخلها من باب المسؤولية في إنقاذ الأوضاع المضطربة بداية العام 2011. وحقّق المطلوب في إسهامه في توحيد الشعب وحماية استقلالية القرار الوطني ووضع البلاد على سكّة الانتقال الديمقراطي. كان سياسيّا محنّكا ورجل دولة بامتياز.الآن وغدا سنذكر مزاياه في فترة دقيقة مرّت بها بلادنا. أنهاها وهو على كرسي الحكم بمشاهد جميلة جدا وصور ثمينة تشكّل دونما شكّ إرثا محمودا له في الإيمان بثقافة الحوار والتوافق ورفضه الإقصاء والقطيعة وتقسيم المجتمع، والثقة المطلقة في الحريّة والخيار الديمقراطي سبيلا الى التقدّم واللحاق بالعصر ومدخلا وحيدا الى بناء الدولة القويّة، دولة الدستور والقانون والمؤسّسات. وهذا ارث عظيم علينا المحافظة عليه. فأجمل ما يُقدّم، اليوم وغدا، الى روح الفقيد الباجي قائد السبسي، هو الوحدة والتضامن الواسع بين كل التونسيّين والتونسيّات ونبذ الأحقاد وخطابات الشيطنة والتقسيم ورصّ الصفوف خلف الدولة الديمقراطية ودعم أركانها المختلفة من الأمن الجمهوري والمؤسّسة العسكريّة الوطنيّة وتحقيق العدالة في توزيع الثروة والمساواة بين كلّ التونسيين والتونسيات، من كلّ الفئات وفي جميع جهات البلاد. نريد للصور والمشاهد التي أنتجتها تجربة سي الباجي الواسعة وكرّستها هيبة رحيله، من وحدة وتضامن بين الجميع ورفض للإقصاء والشيطنة والتقسيم وانسجام بين الشعب ورئيسه ودولته وإشعاع دولي باهر واستثنائي لبلدنا، نُريد لهذه الصور والمشاهد أن تتواصل وأن يقع دعمها وتعزيزها حتّى تطبع نهائيا حاضرنا ومستقبلنا القريب ومستقبل الأجيال القادمة...فلا تخذلوا إرث سي الباجي.