نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. مع الحجري في رحلته الأوروبيّة (2) الحجري ( أحمد بن قاسم الحجري = الشهاب الحجري الغرناطي) : ت بعد 1641 م. فلمّا أن بلغنا في دكالة إلى سوق كبير أمر القائد لخديمه أن يركب معي إلى السوق ، فلّما أن دخلنا فيه جاء المسلمون يسألون الخديم عنّي، قال لهم : هو مسلم. فجاؤوني من كلّ جانب وهم يقولون لي :» شهّد، شهّد «، وأنا ساكت ، حتّى ألحّوا عليّ وكثّروا في ذلك ، قلت: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، فقالوا : والله إنّه قالها خيرا منّا . ثمّ مشوا وأتوني بتمر وغير ذلك ممّا كانوا يبيعونه وفضّة دراهم. قلت لهم : لا أطلب منكم شيئا من ذلك . فلمّا ولّينا عند القائد قال لي: ما ظهر لك ؟ قلت: الحمد لله إذ لم نر عدوّا في هذه الناس لأنّ في بلاد النصارى لم نر فيها في الأسواق إلاّ أعداء لنا يمنعوننا من الشهادتين جهرا والمسلمون يحرّضونني عليها. وفرحوا جميعا حين سمعوا منّي ذلك . وقد شبّهت ما أصابنا من خوف النصارى وما رأينا من التعب في الطّريق بأهوال يوم القيامة، ووصولنا إلى المسلمين بالدخول في الجنّة. « ( ص 42 – 43 ) . وأضاف في الباب الثالث: « ولمّا أن بلغنا إلى محلّة السّلطان مولانا أحمد ابن مولاي محمد الشيخ الشريف الحسني، وكان بقرب المدينة بنحو الستّة أميال بسبب الوباء العظيم الذي نزل بتلك البلاد ، وكان عيد الأضحى في اليوم الآتي من بلوغنا ، وخرج السلطان في جنود لم نظنّ ذلك، وعجبني حال الرّماة فحزامهم هو أفضل وأحسن وأزين من حزام النصارى بكثير، وأمّا العرب الذين جاؤوا وحضروا مع قوّادهم فكانوا تسعا وعشرين ألف فارس وكذا مائة ما عدا السبيحيّة ( أي الصبايحيّة ) وفرسان المدينة والفرادة والجند كثير . وبعد ذلك دخلنا مرّاكش وهي مدينة كبيرة، وفواكهها كثيرة، وعنبها ليس في الدنيا مثله ، عرضها إحدى وثلاثون درجة ونصف وطولها تسع دراج لأنّها قريبة من الجزر الخالدات المسمّاة الآن بقنارية (Les iles Canaries) ومنها ابتداء الطول. وبعد أن دخل السلطان من المحلة وكان ذلك عام سبعة وألف. وأنعم علينا وأذن لنا في الدّخول إلى حضرته في يوم الديوان. ولمّا ابتدأت بالكلام الذي اخترت أن أقوله بحضرته العليّة بصوت جهير ، سكت جميع النّاس الحاضرين كأنّها خطبة ففرح السلطان وقال : كيف يكون ببلاد الأندلس من يقول بالعربيّة مثل هذا الكلام ! لأنّه كلام الفقهاء ، وفرح بذلك كافة الأندلس القدماء . ورأينا العافية والرخاء في تلك البلاد إلى أن مات مولاي أحمد رحمه الله في مولد النّبي صلّى الله عليه وسلّم من سنة اثنتي عشرة وألف، وقامت القوّام والهرج في المغرب كلّه ، ثمّ ثبت في المملكة مولانا زيدان ابن السلطان مولاي أحمد رحمهما الله تعالى . وفي أيّامه أمر السلطان النصراني ببلاد إشبانية ، أعني بلاد الأندلس، المسمّى بفلبّ الثالث من اسمه بإخراج جميع المسلمين من بلاده، وابتداء ذلك كان لسنة ثمان عشرة وألف ، وآخر من خرج منهم كان عام عشرين وألف. وكان الأندلس يقطعون البحر في سفن النّصارى بالكراء ، ودخل كثير منهم في سفن الفرنج ونهبوهم في البحر، وجاء إلى مراكش أندلس منهوبون من الفرنج من أربع سفن. وبعث رجل أندلسي من بلاد فرنجة يطلب منهم وكالة ليطلب بالشرع عنهم ببلاد الفرنج ، واتّفق نظرهم أنّهم يبعثون خمسة رجال من المنهوبين ويمشي بهم واحد من الأندلس الذين سبقوهم بالخروج ، واتّفقوا أنّني نمشي بهم، وأعطاني السلطان كتابه وركبنا البحر المحيط بمدينة أسفي». ( ص 44 – 45) . ومن مرّاكش سافر في المهمّة المذكورة إلى بلاد الفرنجة عبر المحيط الأطلسي من جهة القطب الشمالي متجنّبا إسبانيا من جانبه الأيمن . ثمّ قصد مدينة روان (Rouen) حيث كانت له محاورة مع قاضي القضاة – بتعبيره – وكان مسيحيّا مخالفا لأبناء دينه في بعض المسائل ، ومن أصحاب البابا وأنصاره . وقد أعجب هذا القاضي النصراني ، بعد السؤال والجواب ، بتوافق مبدإ في مذهبه مع ما جاء في الإسلام من أنّ المرء إذا مات – حسب الحديث النبويّ – انقطع عمله إلاّ من ثلاث : صدقة جارية أو علم ينتفع به الناس أو ولد صالح يدعو له ( ص 46 – 48 ) . وسجّل الحجري من تلك المحاورة أيضا ما يلي ، علما بأنّ النصارى يعمّمون اسم الأتراك على المسلمين كافة : « ثم قال لي القاضي : أنتم التركيّون تصنعون فعلا قبيحا بقتلكم جميع أولاد السلاطين إلاّ واحدا أو اثنين . قلت : ذلك لصلاح المسلمين، لأنّ كلّ من هو ابن سلطان يحبّ مملكة أبيه ، فإذا أصاب الهروب والمملكة عظيمة ومتّسعة ، فيقوم معه كثير وتكون بسبب ذلك تفريق الكلمة وتكون الفتنة. وقد يشاهد في النحل أمر عجيب وهو أنّه إذا أفرخ وكثر فتخرج النحل من الجبح ، وتدخل في جبح آخر فارغا. وعندهم فيما بين النحل سلالة سلاطين منها ، وهم نحل أطول جرما من سائر النحل، وتترك النحل واحدا من جنس السلاطين ليكون سلطانها ، وتقتل جميع من هو من ذلك الجنس ، وهذا مشاهد يعلم ذلك كلّ من يخالط النحل ، وهذا إلهام ربّاني. ففرح القاضي وأظهر صحبة ومودّة ، ونفعني نفعا جيّدا في الأحكام.» ( ص 49) . في الباب الخامس سجّل قدومه إلى بريش ، هكذا ينطق اسم باريس (Paris) وهكذا وصفها : «هي دار سلطنة الفرنج ، وبينها وبين مدينة روان نحو الثلاثة أيّام ، وطولها خمسة آلاف وخمسمائة خطوة، وعرضها أربعة آلاف وخمسمائة خطوة ، وبيوتها عالية أكثرها من أربع طبقات وأكثر وأقلّ ، وكلّها عامرة بالناس ، وديار الأكابر مبنيّة بالحجر المنجور إلاّ أنّه بطول الزمن يسودّ لون الحجر. تقول النصارى إنّ أعظم مدن الدنيا القسطنطينيّة ، ثمّ هذه مدينة بريش ، ثمّ مدينة إشبونة ببلاد الأندلس. وكان من حقّهم أن يذكروا مصر إلاّ أنّهم يقولون لها القاهرة الكبيرة. وإذا جمعنا مع مصر مصر العتيق وبولاق وقاية باي لم ندر من هي أعظم : بريش أو مصر بما ذكرنا». ( ص 50 ) وفي باريس رفع الحجري الأمر الذي جاء بسببه إلى تلك البلاد إلى الديوان السلطاني – حسب تعبيره – وكانت له فيها أيضا مناظرات مع العارفين بالعربيّة من النصارى ( ص 50) . أحدهم اسمه أبرت (Etienne Hubert) وهو مولود بأورليناس (Orléans) سنة 1568 م ، أرسل في مهمّة إلى المغرب سنة 1598 م ، وخدم باختصاصه في الفيزياء السلطان أحمد المنصور الذهبي مدّة سنة رجع بعدها للتدريس بمعهد فرنسا (Collège de France) . هكذا عرّف به محقّقو الكتاب ومترجموه في القسم الأنقليزي ( ص 109 ، ه 8) . وقد أطلع الحجري على اختراع مضخّة الماء ( ص 55 ) . (يتبع)