نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. وفي الباب السادس يفيدنا الحجري بمعلومات تاريخيّة حول الموريسكيين الوافدين على تونس حسب ما ذكره له أندلسيّ من بلدة على الحدود بجهة بلنسية تدعى قليش (Qualish = Càlig) . ومنها حسب إحصاء كتّاب الديوان الملكي بمدريد أنّ جملة المهاجرين بصغارهم ثمانمائة ألف نسمة، أكثرهم حلّوا بتونس. وهذا العدد يفوق بكثير ما قرّره لابير (Lapeyre) وأورتيث (Dominguez Ortiz) في حدود ثلاثمائة ألف. وانتهز الحجري الفرصة للتنويه قائلا : « وكان عثمان داي أميرا فيها، وتكفل أمورهم بالسكنى في المدينة وغيرها في القرى، وأحسن إليهم غاية الإحسان أحسن الله إليه ومات رحمهالله عام تسعة عشر وألف، وكذلك الولي الشهير سيدي أبو الغيث القشاش ، كان يعطيهم في كل يوم نحو ألف وخمسمائة قرصة من الخبز صدقة جزاهما الله خيرا كثيرا « ( ص 59). ومرّة أخرى نقل الحجري ما كان له من المناظرات في مدينة بوردو (Bordeaux) التي وصفها بأنّها من أعظم المدن الإفرنجيّة، على ضفّة نهر عظيم، وفيها ثمانون قاضيا ومائتا وكيل وكتّاب بلا حساب ومحكمة (ص 91) . ثمّ قصد بلاد فلنضس أي البلدان الإسكندنافيّة (Netherlands) لأنّهم هناك لا يضرّون بالمسلمين بل يحسنون إليهم، على حدّ شهادته في مستهلّ الباب الحادي عشر ( ص 139). وأعجب بأمستردام (Amsterdam) فقارنها بباريس قائلا: «ولمّا أن بلغنا إلى مدينة مسترضام، رأيت العجب في حسن بنياتها، ونقائها، وكثرة مخلوقاتها، كاد أن تكون في العمارة مثل مدينة بريش بفرنجة. ولم تكن في الدنيا مدينة بكثرة السفن مثلها. قيل إنّ في جميع سفنها، صغارا وكبارا، ستة آلاف سفينة. وأمّا الديار، كلّ واحدة مرسومة، ومزوّقة من أعلاها إلى أسفلها بالألوان العجيبة. ولن تشبه واحدة أخرى في صنع رقمها. والأزقّة كلّها بالأحجار المنبثّة. والتقيت بمن رأى بلاد المشرق، وبلاد الصقالبة، ورومة، وغيرها من بلاد الدنيا وقال لي إنّه ما رأى مثلها في الزين والملاحة. واعلم أنّ فلنضس هذا، هي سبع عشرة جزيرة، وجميعها كانت لسلطان بلاد الأندلس» (ص 139) . ونوّه باعتراف عالمين لوثر (Luther) وكلفان (Calvin) بتحريف الإنجيل، ثمّ نوّه بمدارس العلوم في مدينة ليدن (Leyden) حيث وجد المستعرب طوماس إربينيوس (Thomas Erpenius) الذي تعرّف عليه في باريس، فكانت له معه مناظرة في الدين، كالعادة (140 – 144 ) . ومنها انتقل إلى مدينة لاهاي (The Hague = La Haye) فالتقى برسول – أو سفير – أمير هولاندا الذي عرفه في مرّاكش أسيرا مع أسرى القرصنة فسعى لتحريره فظلّ شاكرا لصنيعه (144 – 145 ) . وفي هامش الترجمة الأنقليزيّة أنّ اسم السفير لدى أبي فارس سلطان مرّاكش هو بيتر مرتنزون (Pieter Maertenszoon Coy ) وأنّ اسم الأمير موريس دي ناصّو (Maurice of Nassau) ( حكم 1567 – 1625 م ). ( ص 199) . وعن طريق السفير كانت للحجري جلسات مع الأمير، إحداها أجابه فيها عن سؤاله حول سبب طرد المسلمين من وطنه بقوله : « قلت : اعلم أنّ الأندلس كانوا مسلمين في خفاء من النصارى، ولكن تارة يظهر عليهم الإسلام، ويحكمون فيهم، ولمّا تحقّق منهم ذلك لم يأمن فيهم، ولا كان يحمل منهم أحدا إلى الحروب، وهي التي تفني كثيرا من الناس، وكان أيضا يمنعهم من ركوب البحر لئلاّ يهربوا إلى أهل ملّتهم، والبحر يفني كثيرا من الرجال، وأيضا في النصارى كثيرون قسّيسون، ورهبان، ومترهّبات، وبتركهم الزواج ينقطع فيهم النسل، وفي الأندلس لم يكن فيهم قسّيسون ولا رهبان ولا مترهّبات، إلاّ جميعهم يتزوّجون، ويزداد عددهم بالأولاد، وبترك الحروب، وركوب البحر. وهذا الذي ظهر لي حمله على إخراجهم، لأنّهم بطول الزمن يكثرون « ( ص 146). وممّا استغربه في تلك المدينة – ويسمّيها الهاية – مصادفته لأطول أيّام العام إذ « اليوم هناك من أوّل الفجر من نحو تسع عشرة ساعة بتقريب، ولا ظلمة في الليل إلاّ قليلة، وغروب الشمس منحرف، وتبقى الحمرة في السماء إلى قريب من نصف الليل . ثمّ بعد ذلك بساعة ونصف بتقريب نصلّي الصبح « ( ص 149) . وختم الحجري الباب الحادي عشر بفصول قرار الطرد الصادر عن الملك فيليب الثالث ( ص 150 – 155) بينما خصّص الباب الثاني عشر لمناظرة في مصر مع راهب عالم يقرأ بالعربيّة ولمكاتبة لراهب في مرّاكش ( ص 156 – 171 ) والثالث عشر – وهو الأخير – لكرامات من نعم الله عليه، أطرفها تتعلّق بقلادة ذهبيّة لزوجة ولده المقيمين بتستور عندما كان هو مقيما بتونس عام 1050 ه / 1640 - 1641 م ( ص 179 – 180) . تلك حكاية علّقنا عليها في كتابنا : بلاد باجة ... ص 102 – 103 . التعليق : خلافا للمغاربة الذين يقصدون الحجاز للحجّ والعمرة والعلم أخذا وعطاء قصد الحجري أوروبا في مهمّة رسميّة لتحرير أسرى المسلمين – من موريسكيين وغيرهم – ممّن احتجزوا أو وقعوا لدى النصارى تبعا للقرصنة المزدهرة في زمانه . وعلى هامشها ساهم بالمناظرات الفقهيّة في الجدل الإسلامي المسيحي كسلاح ثقافي لإذلال العدوّ المتسبّب في محنة المسلمين بالأندلس . لذلك جاءت رحلته – في إطار السيرة الذاتيّة – ثريّة بالتراث الديني، فقيرة في وصف البلدان وعوائد الأمم، وبالتالي مثقّفة أكثر من ممتعة . انتهى