نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار و الأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ و غلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. موسكاو (بوكلير) : 1785 – 1871 م ثمّ تجاوز موقع روقة (Rugga) أو كاراقا (Caraga) ومنزل أولاد سيدي حسن بن الحاج، ملاذ الهاربين من العدالة، متّجها إلى صفاقس التي قال عنها : « لصفاقس بصفة عامّة تجارة مزدهرة، مازالت تتطور أكثر فأكثر فهي مركز تجاري رئيسي، لا لمنتوجاتها الأساسية فحسب، كالزيت والصوف والفواكه، بل كذلك بالنسبة إلى مختلف خيرات الجريد من محاصيل طبيعية كالتّمور والحنّاء وريش النّعام والنطرون والعسل والشمع الجيّد، أو من منتوجات صناعية كالصابون وأجود أنواع البرانيس وأقمشة الأثاث والأقمشة المنسوجة من الحرير والصوف بقدر متساو، والأغطية الصوفية الملوّنة ومصنوعات الحلفاء والسعف ... إلخ، علاوة على أرفع المنتوجات الفخّاريّة، وأشدّها صلابة، الواردة من جربة التي لا يزاحمها مكان آخر في صناعة الفخّار في هذا الحجم الهائل فضلا عن بضائع أخرى أقلّ أهمّية « ( ص 286 – 287 ) . وأكمل كلامه عنها بوصف بساتينها معجبا بعصير «اللاّقمي» المستخرج من نخيلها ( ص 288 – 289) وبطريقة صيد السمك ب « الزروب» ( ص 291 – 292 ) . ومنها ألقى نظرة من بعيد على قرقنة، وانطلق إلى سوسة ( ص 292 – 293 ) عبر الشابة وسلّقطة والمهديّة ( ص 295 – 297 ) . وفي هذه الأخيرة لم يعجبه شيء غير زنجيّة اعترضت طريقه إلى الحمّام « لم يكن فيها شيء من العيوب المعروفة لدى الزنجيّات .. بل إنّها في دلالها وغرورها كانت تضاهي تماما باريسيّة حلوة مطليّة باللّون الأسود « ( ص 302). وفي الطريق إلى المنستير أعجب بطريقة الريّ المعروفة فوصف البئر والدّلو والجابية والسواقي مفضّلا إيّاها على طريقة الرشّ الأوروبيّة إذ لا تحتاج إلاّ إلى عامل واحد يحوّل مجرى الماء ( ص 302 – 303) . ثمّ دخل المدينة عبر منفذ ضيّق في السور يترك مفتوحا لمن تأخّر من الوجهاء بعد غلق الأبواب ( ص 304). ثمّ قطع ما بينها وبين سوسة من القفر ليحلّ ضيفا على السيّد مانياتّو (Manietto) بوصفه نائب قنصل لخمس أو ستّ دول. ومن سطح منزله ذكّره مشهد المدينة بمآذنها المطلّة على البحر بمدينة الجزائر ( ص 305). وصفها باقتضاب مهتمّا خاصّة بخزّانات الماء العتيقة وبجلسة مع حبر يهودي ألماني يسعى لبناء مركز رعاية المشرّدين من شباب ملّته وكهولها ( ص 306 – 307). ثمّ عاد إلى صفاقس في ضيافة « القايد» الجلّولي مؤتمرا برسالة مصطفى باشا باي. ثمّ غادرها بعد سهرة غنائيّة، صبيحة غرّة أوت 1835، عائدا إلى الجمّ فإلى القيروان فإلى سبيطلة عبر طرزّة وجلمة ( ص 320 – 345) فإذا هي « في حالة معتبرة من الصون والحفظ « تذكّر بمدينة بومباي الإيطالية . هكذا بدت له سفيطلة الأثريّة ( ص 345) فانطلق في وصفها ( ص 345 – 350). وبنفس الإعجاب وصف القصرين القديمة (Colonia Scillitana) ( ص 351 – 352 ) وأضاف :» لاحظنا خلال اللّيلتين اللّتين قضّيناها هنا أن نيرانا لا تحصى تظلّ متّقدة طوال سفح الجبل وتغدق النور على سائر الدواوير. وهذا أيضا من الإجراءات التي أدّى وجود الأسود إلى اتّخاذها، بالرغم من نزوح هذه السّباع من المكان، لأنّها لا تفتأ تنحدر من الجبال لتنقضّ على القطعان، ممّا يجعل السّير عبر هذه الأرجاء شديد الخطورة على البشر .» ( ص 353). وبعد ضيافة لدى قبائل الفراشيش وماجر ( 353 – 363) زار آثار حيدرة، على الحدود مع ولاية قسنطينة، فوصفها هي أيضا بنفس الإعجاب بحسن حالتها ( ص 363 – 364) غير أنّه فوجئ بكوكبة من فرسان البدو . فماذا قال وبأيّة نيّة ؟ قال : « لا يسعني إلاّ أن أعبّر عن اقتناعي بأنّ أيّ ضابط حازم مقدام من ضبّاط خيّالتنا بمقدوره، على رأس عشرين فارسا، أن يواجه دون أيّما عناء وفي أيّ وضعيّة عسكريّة كانت، مائة من البدو المدجّجين بالسلاح والمحاربين حسب عادتهم . فهم أوّلا لا يعرفون خطّة هجوميّة عدا الإغارة العشوائية، وما أن يفرغوا شحناتهم حتّى يلوذوا بالفرار، ثانيا، هم في حاجة إلى ما لا يقلّ عن ربع ساعة في المعدل لشحن بنادقهم الرديئة والثقيلة ثقل أربعة أضعاف بنادقنا، ثالثا، تكون هذه البنادق عامة في حالة سيئة فتحبط الطلق مرّة أو أكثر كلّ ثلاث مرّات، كما أنّي لم أر قط دليلا على دقّتها في الرّمي وإصابة الهدف، على أنّ الأهالي يسرفون في الإشادة بأبطالهم في الرماية، رابعا، إنّ قصورهم عن استعمال المسدّسات يعادل قصورهم عن استخدام البنادق، كما أنّهم لا يجيدون، كالأتراك، أو من خدم في صلبهم، مقارعة السيوف أو لا يستعملونها البتّة، ولئن وجدت لديهم سيوفا فهي سيئة لا تصلح كثيرا، خامسا وأخيرا، فإنّهم، رغم تحلّيهم بالشجاعة، إن استوجب الحال، يكرهون الخوض في المعارك إن لم تدفعهم مصالحهم الخاصة ويفضّلون دوما الفرّ على الكر ّ» ( ص 365). وفي طريق العودة إلى تونس نزل بالكاف ( ص 389 – 395 ) ثمّ مرّ بالكريب وسيدي عبد ربّه ( ص 397 – 398) ثمّ توقّف بدقّة ( ص 398 – 406 ) ثمّ مرّ بتبرسق ( ص 406) وطنقة ( ص 406 – 407) وتستور ( ص 407) ومجاز الباب ( ص 408) والمرناقيّة ( ص 410) فكان واصفا بالقليل أو بالكثير ما اعترضه من الآثار وما لاحظه من السكّان حسب ما استعرضناه بالتفصيل في كتابنا الأسبق « الشمال الغربي التونسي / فصول ومراجع « . – سحر، تونس 2006، ص 66 – 74 . التعليق : بدا بوكلير موسكاو متحاملا على العرب بحكم شعوره بالتفوّق الأوروبيّ، متتبّعا لمظاهر الجهل والتخلّف والفقر، بما يكشف عن نواياه الممهّدة للاستعمار المنتظر حتّى لا يكاد يحظى بتقديره شيء من الحاضر مقابل ما يثير إعجابه من الماضي الحافل بالمعالم الرومانيّة والآثار المسيحيّة، لكأنّ البلاد أرض أجداده . (انتهى)