نحاول بهذه الحلقات من أدب الرحلات إمتاع القارئ بالتجوال في العالم رفقة رحّالة وكتّاب شغفوا بالترحال وأبدعوا على اختلاف الأنظار والأساليب في وصف البلدان، سواء انطلقوا من هذا القطر أو من ذاك، مع العلم بأنّ أكثرهم من المغرب الكبير ووجهاتهم حجازيّة لأولويّة مقصد الحجّ وغلبة المشاغل العلميّة والثقافيّة على آثارهم باعتبارهم فقهاء وأدباء، على أنّ الرحلة تكون ممتعة أكثر مع آخرين جالوا في قارات أخرى. مع بوكلير موسكاو في رحلته التونسيّة (2) موسكاو (بوكلير) : 1785 – 1871 م . وأضاف : «ثمّ اجتزنا بهوا يغصّ بالخصيان من الزنوج، يحملون الزيّ النظامي الأزرق، تتخلّلهم وتبرز من بينهم بضع خادمات فرنسيات ، عهد لهنّ، كما علمنا، بتحضير مرق خفيف على الطريقة الأوروبية، غداء للباي الذي فرضت عليه حمية منتظمة، كما أنّهنّ يضطلعن بتمريض هذا العاهل والسّهر على راحته . استقبلنا الباي في قاعة فسيحة شكّلت في نظري لوحة مسرحية بأتّم معنى الكلمة . فكانت جدرانها مجلّلة بستائر المخمّل القرمزي، المطرّزة بالذهب، كما زخرف السقف المقبّب بالذهب وشتّى الألوان الساطعة الزاهية . وعلّقت يمينا ويسارا أسلحة كثيرة بديعة الصّنع : سيوف وخناجر على اليمين وأسلحة نارية على اليسار، كلّها تومض وتبرق ذهبا وفضّة ومعدنا صقيلا، وألماسا وأحجارا كريمة على مختلف الألوان . وقد اعتلى هذه الأسلحة النفيسة، على الجدران، رفّ حشرت فوقه زهريات خزفية ثمينة وتحف أخرى عديدة . ثمّ هناك فوق هذا إكليل من المرايا المتراصفة والمؤطّرة بالذهب، يصدر عنها في هذه القاعة، وقع عجيب ساحر . وينحدر أسفل الأسلحة ومن كلّ الجانبين، درجان لكلّ منهما ثلاث مصطبات مجلّلة بالدّيباج الأحمر، يقفان عند وسط القاعة، حيث يكوّنان ممرّا عريضا فرش بأجمل الزرابي الفارسية وأبهاها. ووقف فوق المصطبة السفلى، من كلا الجانبين، الأمراء وبقيّة أعيان البلاط، وفي سيقانهم الجوارب دون الأحذية، فنشأ عن صفّيهم زقاق تصدّر آخره الباي جالسا على أريكة « عثمانية» غلافها من الحرير الأطلسيّ الأبيض . وكان يرتدي قفطانا أصفر وعمامة بيضاء، فبدا لي شيخا في حوالي الستين من عمره، لحيته فضّية البياض وعيناه تفيضان حيويّة وأنفه طويل وتقاسيم وجهه مازالت رغم المرض تنمّ عن الفطنة والحيويّة وحبّ العيش . ومن المعروف أنّ شغفه المفرط بملذّات الدنيا، المباح منها والمحرّم عند المسلمين، هو السبب الأساسي في مرضه العضال . وكان، عند دخولنا، يدير في يساره سبحة سوداء .ولم نر عليه ولا حذوه أيّ نوع من السلاح، مثله في ذلك مثل بقية الحاضرين من رجال البلاط . واسترعت انتباهنا خلفه نافذة كبيرة تغمرها من الخارج أغصان متسلّقة مورقة تطاير عليها عدد من عصافير « الكاناري «، حيالها شبّاك مذهّب يمنعها من الفرار . وكان ينفذ إلى القاعة الفسيحة، وعبر هذه الفتحة، بصيص خافت من النور أضفى على عتمة القاعة غبسة عجيبة وأغدق على المشهد سحرا عظيما . وما أن دنونا من الباي وهممنا بمصافحته حتّى رنّت نغمات موسيقية عذبة، صدرت عن ساعتين قديمتي العهد، انتصبتا على يمين العاهل وعلى يساره « ( ص 94 – 96 بينهما صورة المجلس ) . وبدل الوقوف خصّصت للضيف ومرافقيه مقاعد وثيرة وقدّمت لهم قهوة بالكاكاو لذيذة ( ص 96 – 97 ) . وصف لنا بالتفصيل تراتيب جنازة الباي حسين من باردو إلى تربة الباي بالمدينة بناء على ما شاهده متخفّيا وما حدّث به . ولفت نظره مرافقة الرقيق المعتوقين، وهم 600 زنجيّة و 200 زنجيّ، كلّ يرفع عصا بشهادة عتقه وتزاحم المذنبين الموقوفين لالتماس العفو من الجرم أو إسقاط الدين بلمس النعش وتوقّف الجنازة للصلاة عند مقام سيدي عبد الله الشريف وفي ساحة القصبة حيث يكون في انتظارها شيخ المدينة وفي جامع الزيتونة ( ص 159 – 161). وفي حمّام الأنف وصف بوكلير قصر نزهة الباي حيث يقيم بعض الزنوج واليهود . وقد وجده جيّد التأثيث ولكن كثير القذارة نتيجة الإهمال، كما وصف العيون الساخنة والجبل الشاقّ ( ص 168 – 171) . كما وصف المحمّديّة وأوذنة ( ص 187 – 190) . وفي زغوان وصف الجبل الذي تسلّقه دون بلوغ القمّة، كما وصف معبد المياه وقوس جوبيتار بمدخل المدينة معبّرا عن افتتانه بأنواع الثمار وأصناف الطعام ( ص 229 – 240). لكنّه تمكّن في نفس الأسبوع من بلوغ القمّة وصولا إلى قبرين لوليّين صالحين وقطيع ماعز يرعاه زاهد فيقير ( ص 247 – 252 ) . واصل بوكلير الوصف وصولا إلى القيروان حيث ذكر قداستها بمقام الصحابي أبي زمعة البلوي وبجامع عقبة المشهور، على أنّه لاحظ كثرة المتسوّلين الدراويش مقابل نظافة المدينة أكثر من تونس كما قال ( ص 266 – 267 ) . وبالمناسبة تبسّط في استعراض امتحان المرور بين ثلاثة أعمدة بالجامع لمعرفة المذنب من المغفور له حسب المعتقدات الشعبيّة ( ص 271). واستأنف وصف المدينة مستعرضا تاريخها باقتضاب ومتأسّفا للجدب الذي حلّ حولها محلّ الخصب القديم ( ص 271) . وواصل مسيره في اتّجاه الجم بعد ضيافة عند « قايد» السواسي ( ص 273 – 277) . وصف القصر الشهير بما عليه من الدمار وما غمره من الركام وما ظهر فيه ويظهر من اللّقى كلّما حفر، قال : « وتستخرج من باطن الأرض يوميّا مسكوكات من الذهب والفضّة وأحجار منحوتة ومصابيح من الخزف وغير ذلك « ( ص 279) . (يتبع)