يحل علينا العام الهجري الجديد باليمن والبركة وهي مناسبة يتذاكر فيها المسلمون سيرة نبيهم وظروف وأسباب هجرته ﷺ من مكة ارض مولده وبعثته الى المدينة حاضنة دعوته . ان هذه الحادثة العظيمة تمد المسلمين بالعبر والعظات والدروس والتوجيهات، وقد شاء الله تعالى أن تكون بأسباب مألوفة للبشر، فقد تزود فيها النبي ﷺ للسفر وركب الناقة واستأجر الدليل واتخذ صاحبا وتخفى وجعل عليا في فراشه... . ولو شاء الله لحمله على البراق ولكن ليكون قدوة لأمته من بعده في فعل الأسباب والأخذ بها مع التوكل على الله... إن من أهم دروس الهجرة أن المسلم مأمور بعبادة ربه كل وقت وحين ولو حيل بينه وبين ذلك في مكان إقامته وجب عليه الخروج إلى أرض الله الواسعة ليعبد ربه قال تعالى: ﴿ إِنَّ 0لَّذِينَ تَوَفَّٰهُمُ 0لْمَلَئِكَةُ ظَٰلِمِى أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِى 0لأرْضِ قَالْواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ 0للَّهِ وٰسِعَة فَتُهَٰجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرا ﴾ [النساء: 96] واستثنى الله عز وجل الذين لا يستطيعون الخروج من النساء والأطفال فقال سبحانه: ﴿ إِلاَّ 0لْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ 0لرّجَالِ وَ0لنّسَاء وَ0لْوِلْدٰنِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى 0للَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ 0للَّهُ عَفُوّا غَفُورا ﴾[النساء:97، 98]. ومن دروس الهجرة الثقة بنصر الله ووعده عند الشدائد وكمَال اليقينِ بمعيّة الله تعالى لعبادِه المؤمنين يقينا راسخا لا تزعزِعُه عواصِف الباطل، ولا يُزلزِله إرعادُ أهلِه ولا إبراقهم، ولا يهزّه تهديدُهم ولا وعيدهم، فحين عظُم الخَطب وأحدَق الخطرُ ببلوغ المشركين بابَ الغارِ الذِي كان فيه النبي ﷺ وصاحبه، قال أبو بكر رضي الله عنه: والله يا رسول الله، لو أنَّ أحدَهم نظر إلى موضعِ قدمَيه لرآنا، فقال رسول الله: « يَا أبَا بَكر، مَا ظنُّكَ باثنَين اللهُ ثالثُهما». فأنزَلَ سبحانه مصداقَ ذلك في كتابه: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُود لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 40]. ومن دروس الهجرة حب المؤمنين لنبيهم ﷺ فقد رُوي في قصة الهجرة أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يمشي تارة أمام النبي ﷺ وتارة خلفه وتارة عن يمينه وتارة عن شماله، خوفا من أن يأتيه مكروه فيفديه بنفسه رضي الله عنه. وهكذا كان بقية أصحاب رسول الله، كانوا يفدونه بأموالهم وأبنائهم وأنفسهم وهذا هو حال المؤمنين في كل زمان.ومن علامات محبة النبي متابعته فيما يأمر به وعدم تقديم أي أمر على أمره. وتلك هي المحبة الحقيقية ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ﴾ [آل عمران: 31]. ومن معاني الهجرة وجوب هجرة القلب إلى الله بمحبته وعبوديته، والتوكل عليه وهجر ما يكرهه وفعل ما يحبه. وهناك هجرة القلب والبدن للسيئات والمعاصي. عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعا: « المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه «. وروى البخاري تعليقا وابن حبان عنه أيضا: «المهاجر من هجر السيئات». ومن دروس الهجرة: أن رابطة العقيدة هي الرابطة التي الحقيقية بين المؤمنين، حيث تتضاءل أمامها الانتماءات القومية والقبلية والعلاقات الحزبية، فعندما قدم النبي المدينة آخى بين المهاجرين والأنصار، وقضى على العداوة التي كانت مستحكمة بين الأوس والخزرج فانصهر الجميع في بوتقة الإيمان وذابت بينهم العداوات والإحن وتلاشت العصبيات والأعراق. الخطبة الثانية ان من فاته ثواب الهجرة إلى الله ورسوله زمن النبوة فقد شرع الله له هجرة من نوع آخر فيها ثواب عظيم وأجر جزيل إنها هجرة الذنوب والمعاصي، فاهجر المعصية وهاجر إلى الطاعة واهجر التفريط وهاجر إلى الاستقامة، واهجر التمرد والآثام إلى الانقياد والاستسلام، وهاجر بقلبك من الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها إلى الدار الآخرة والرغبة فيها، قال ﷺ:» المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه «. واهجر الكسل وطول الأمل إلى الجد والاجتهاد في طاعة الله وخاصة في هذه الأيام التي كثرت فيها الفتن والمحن، قال ﷺ: « العبادة في الهرج - أي زمن الفتن - كهجرة إلي». رواه مسلم.كما إنَّنا حينما نستقبلُ عاما ونودِّعُ عاما آخرَ، لَهُوَ حَدَثٌ ينبغي الوقوفُ عندَه، وإنْ كان في نظر بعض الناس أمرا عاديّا، ذلك أنَّ هذا العام قد مضَى من أيَّام أعمارنا، وذَهبَ مِن سِنِي آجالنا، وأصبحْنا إلى الموت أقرب، ونحن تُفرِحنا الأيام إذا ذَهبت، لأنَّنا نتطلع إلى الدنيا وزخارفها، وقد مَدَدْنا الآجال، وسوَّفْنا في الأعمال، وبالغْنا في الإهمال، فيا أيُّها المؤمن، احذرْ مِن الأيام وتسارعها فإنَّها غرارة، واحذر من الدنيا وزخارفها فإنَّها غدَّارة، كم مِن مؤمِّل بلوغَ آمال أصبح رهْنَ القبور مدفونا، وكم مِن مُفرِّط في الأعمال أصبح بعدها مغبونا، فاغتنمْ فرصةَ حياتك وشبابك، وفراغك وصحتك وغناك، قبل أن تَفقدَها أو تفقدَ بعضها، فتُصبح من النادمين.