كان يقول لأصدقائه: "أنا بحاجة الى الحب لأتمكن من العمل، فالحب هو الجدار الواقي الذي يرد الصدمات والخيبات". ولكن هل كان بيكاسو وحشا أم ملاكا مع النساء؟!وهل صحيح ان بيكاسو أدمن تغيير النساء.؟ هو الفنان الاسباني الذي تخصص في الوجوه التي رسمها حتى صار اسمه على كل شفة ولسان. لقد كان عملاقا يقف في علياء هذا القرن، فهو مؤسس الحركة التكعيبية التي أحدثت انقلابا في الفن، وهو مجدد في كل حقل من النحت الى رسم البورتريه. أما على صعيد حياته كانسان، فيبدو انه على العكس تماما، كان شخصا متغطرسا منفلتا، وجارفا لاستغلال النساء اللواتي ينجذبن اليهن. نساء في حياة بيكاسو ما أن بلغ العشرين من عمره حتى ظهرت النساء في حياته، فرناند، ايفا، اولغا، ماري تيريز، دورا مارا، فرانسواز، جنفياف، جاكلين. ولقد سُئل يوماً ما الذي يستهويه في المرأة ؟ فأجاب عنادها قبل جمالها؟ وقال يوماً لجنفياف: أنا في الحب مثل الرجل الأعمى، أحب الأشياء التي لا أراها ، وإنما احس بها ". فرناند أول القائمة في ليلة من ليالي أفريل عام 1904 ، شاهدها وهي تركض باتجاه البناية التي يقع فيها مرسمه، كان المطر غزيراً، أصطدمت به دون أن تراه - آه عفواً يبدو أن هناك أحداً كان الرجل القصير يحمل بين ذراعيه قطّة صغيرة أراد أن ينقذها من الوحل : التقطتها من الشارع، كانت تائهة وتُقاسي البرد . ومن دون أن تشعر تناولت القطّة من يده، كانت هذه الفتاة اسمها "فرناند اوليفيه" وستصبح أولى النساء في مجموعته التي ضمّت سبع نساء، وقد قالت عنه فيما بعد: "عندما رأيته للمرة الأولى ظننته يعمل بهلواناً في السيرك، كان يرتدي قميصاً وردياً وربطة خضراء ومعطفاً أسود يصل الى قدميه". كانت تصغره بثلاثة أعوام، من عائلة بسيطة، تعمل موديلاً بعد أن فشلت في تجربة زواج قاسية، وعندما دعاها الى مرسمهِ وجدت نفسها وسط كومة من اللوحات والإطارات التي تملأ المكان، مرسمهُ يدّل على أنه فقير أيضاً، سرير عتيق وكرسي مربوط به كلب صغير، ومنضدة تتجول في أدراجها الفئران، وقالت لنفسها وهي تتفحص المكان: "ما هذه الحياة البائسة". لكنها منذ اللحظة الأولى تركت في نفسه أثراً كبيراً، حتى أنه وصف حبّه لها ب "الحب الجنوني"، فقرر أن يستحوذ عليها وبدأ يرسمها: امرأة نائمة أمام رجل يجلس قرب السرير، سانداً ذقنه بقبضة يديه، يتأمل مشدوهاً بالمرأة الغارقة في نوم عميق وقد طوت ذراعها على رأسها . لم تمانع فرناند، أن يرسمها بيكاسو من كل الجهات، ومن دون أن يهمل أدقّ التفاصيل، حتى ثيابها التي أصر على أن يرسمها باللون الوردي . وكان يقول لأصدقائه: "أنا بحاجة الى الحب لأتمكن من العمل، فالحب هو الجدار الواقي الذي يرد الصدمات والخيبات". لم تكن لوحات بيكاسو آنذاك تحظى باعجاب هواة الفنون، وكان بيكاسو يعيش في فقر دائم: "كنا مفلسين ولم نحظَ يوماً بوجبة طعام فاخرة" هكذا تصف فرنارد حياتها مع بيكاسو، لكنَّها تخبرنا أن الحظ حالفهما ذات يوم: "وصل تاجر اللوحات الشهير فولار الى مرسمنا من غير موعد، وفجأة اشترى 25 لوحة من لوحات بيكاسو ودفع نقداً 2000 فرنك فرنسي ليحولنا من شحاذين الى برجوازيين". بدأت فرناند تحلم بأن تصبح سيدة وتملك بيتاً وأثاثاً، ورضخ لها بيكاسو الذي وجد لها شقة في حيٍ راق من احياء باريس، هناك عاشت احلامها، فهاهي تملك غرفة نوم حديثة الطراز، وصالة بها بيانو، وضيوف من طبقة اجتماعية راقية، لكنَّ بيكاسو العنيد لم يكن فرحاً بهذه الانتقالة، فهو يحنّ الى مرسمهِ القديم، وأخذ يشعر أن توهجه في طريقه الى الانطفاء، وأخيراً قرر أن يعود الى المرسم ويترك فرنارد لعالمها الجديد، وحين علمت بالأمر، أرادت أن تثير غيرته فارتبطت برسام ايطالي شاب وسافرت معه، لتسدل الستار على أوّل قصة حب، وليبدأ بيكاسو حكاية جديدة مع امرأة اسمها مارسيل ولقّبها هو ب "إيفا الغامضة". المرأة الغامضة ظلّت حياتها على شيء من الغموض، وزادها أنها اتخذت لنفسها ثلاثة اسماء ، بيبي ومارسيل وإيفا، عاش معها بيكاسو مرحلة الحب العظيم كما اسماها، وبرغم ذلك لم يرسمها إثباتاً لحبّهِ لها وتأكيداً على أنها ملكٌ له لوحده، ولهذا أصر في تلك المرحلة من حياته أن يوقّع على لوحاته باسم إيفا اضافة الى اسمه، وقد عاملها معاملةً خاصةً، فهي لاتتدخل في أموره الشخصية، وتكتفي بدورها كامرأة الى جانب رجل متميز، ولم تكن تعلق على قوله: "إن الرجل المتميز يحب عمله أكثر من أي شيء في العالم، حتى اكثر من المرأة التي يحب". رافقته في رحلة صعوده الى الشهرة والنجاح، وكانت بصحبتهِ في تنقلاته، وشهدت معه ولادة مرحلة التكعيبية، ونراه يكتب في كرّاس معرض مشترك مع الرسام براك، عرضت فيه أعمالهما التكعيبية: "كنت قبل أن امسك بالفرشاة، أنظر الى واحد من أجمل الأعمال التي يحتويها بيتي، محبوبتي إيفا ". في سنة 1914 نشبت الحرب العالمية الأولى، ويشعر بيكاسو بأن الكارثة ستحل قريباً، وبالفعل حلّت حين أخبره الطبيب، أن إيفا مصابة بالسل، ولم يمهلها المرض طويلاً لتتوفى في مطلع عام 1916، فدفنها في مقبرة قريبة من مرسمه، وأصيب بحالة من العزلة والاكتئاب، وفي كتابها بيكاسو، تشير جيرترود ستاين الى أن: "بعد موت إيفا. لم نسمع من بيكاسو أية ضحكة" – جيرترود ستاين بيكاسو، ترجمة ياسين طه حافظ - وحين شاهده صديقه الشاعر أبولينير وهو يغوص في الحزن قال له: "انت بحاجة يا صديقي لضربة سوط حب جديد، وعاطفة جديدة" وكان السوط هذه المرّة امرأة روسية اسمها أولغا . مصيدة الزواج كانت أولغا كوكلوفا، راقصة استعراضية في فرقة باليه، في العشرين من عمرها، وهو في السادسة والثلاثين، بدأت شهرتها تظهر بوضوح، سحرت بيكاسو ببرائتها التي تشبه براءة الأطفال، فقال له صديقه جان كوكتو: " احذر يا صديقي، إن الروسيات ينشدن الزواج". صحب بيكاسو أولغا الى إسبانيا، فقدمها الى عائلته، وما أن رأتها والدته حتى قالت لها: "يا صغيرتي المسكينة، لو كنت صديقتك لأقنعتك بالابتعاد عنه وتركه، لأنه لا يستطيع أن يحب امرأة واحدة، مهما كانت جميلة وطيبة ومخلصة. لن يكون ملكاً لها، لن يكون ملكاً سوى للرسم فقط". لكنهما تزوجا في الثاني عشر من جويلية عام 1917 ، ليبدأ معها مرحلة جديدة، وتقول له: إذا رسمتني فإنني اريد أن يكون وجهي متميزاً. وقد رسم لها ولابنه باولو، اكثر الصور الشخصية وداعةً ووضوحاً في فنه. كان بيكاسو ينظر الى أولغا بأنها انسانة تعتمد على العقل ولا تعرف أن تسلم أمورها الى الفوضى العارمة، في الرابع من فيفري عام 1921 ولد ابنهما البكر بولو، فطلبت أولغا أن ينتقلوا الى سكن جديد، وأن يشتري لهما سيارة فخمة، وأن يدخل خادمة الى البيت، وفي عز نشاطه الفني، بدأت الغيرة تشتعل في نفس أولغا التي كانت تشكو من الفوضى التي تتسم بها حياة بيكاسو، بينما كان يشكو هو من الهدوء والنظام، وبدأت المشاكل، وحين سُئل لماذا لايستطيع العيش مع امرأة واحدة أجاب : "لقد سعيت جاهداً أن أكون مخلصاً للمرأة التي تكون إلى جانبي. فمن الظلم أن أقول أنّي لم أغرم بالنساء اللاتي رافقنني". ولم يكن هناك من حل سوى الفراق، فمنح أولغا قصراً في منطقة بواجولو، وانتقل هو للعيش في مرسم جديد في وسط باريس . ...وإلى حلقة أخرى