بانطلاق الحملة الانتخابيّة تدخل بلادنا محطة سياسية أخرى على غاية من الأهميّة تكريسا للتعدديّة والتنافس الانتخابي والتداول السلمي على السلطة. وعلى طول المسار الانتخابي وبمختلف مراحله، فإنّ الحملة الانتخابيّة تبقى المحرار الرئيسي لتقييم درجة تطوّر الممارسة السياسيّة، من حيث احترام المتنافسين لبعضهم البعض وقدرتهم على طرح البرامج والأفكار، ومدى صلابة الثقافة الديمقراطيّة، من حيث تكريس مبدأي حياد الدولة وتكافؤ الفرص بين الجميع. لقد أشار محمّد الناصر رئيس الجمهورية في كلمته الأخيرة إلى المخاوف من تصاعد موجة التشكيك في المسار الانتخابي الحالي متعهّدا بضمان حياد الدولة حيال مختلف المتنافسين داعيا ممثليها في كلّ المستويات المركزية والجهوية والمحلية الى التقيّد بما يفرضه الدستور من إلزامية الوقوف على نفس المسافة ومنع توظيف إمكانيات الإدارة لخدمة طرف على حساب آخر. ومن خلال مجريات الحملة الانتخابية سنرى مدى تطوّر مفهوم حياد الدولة على أرض الواقع ومدى القدرة على تطبيقه دون محاباة ودون انحياز ولا توظيف. بقي أنّ سلامة المسار الانتخابي، ولمنع التشكيك والقدح في فعالياته المختلفة، ومنها على وجه الخصوص الحملة الانتخابيّة، تحتاجُ إلى تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص بين جميع المترشحين، وهذه مهمّة وطنيّة كبرى تسهرُ عليها أجهزة الدولة وخاصة الأمنيّة والقضائية والمالية (البنك المركزي تحديدا) في التصدي لكلّ السلوكات المشينة ومنها العنف وشراء الذمم والتعدي على المعطيات الشخصيّة وانتهاك القوانين المنظمة للشأن العام ومنه تسرّب الأموال المشبوهة. كما أنّ الهيئات الوطنية المستقلة، ومنها على وجه الخصوص هيئة الانتخابات وهيئة مكافحة الفساد وهيئة الاتصال السمعي البصري وهيئة حماية المعطيات الشخصيّة، لها هي الأخرى مسؤوليّة جسيمة التي تتقاطع مهامها كلّها في مراقبة الفعل الانتخابي تأمينا لسلامته وتحقيقاً للعدالة وتكافؤ الفرص بين كلّ المتقدمين للانتخابات، وهذا الأمر منوط أيضا بالإعلام، وتحديدا الإعلام العمومي الذي يقف أمام رهان حقيقي في بيان استقلاليته عن مختلف اللوبيات وقوى الضغط المختلفة وتتساوى في ذلك مجموعات المصالح والفساد والقوى السياسيّة والحزبيّة الماسكة اليوم بدواليب الحكم. لن يكون للانتخابات الحالية أيّ معنى وأي طعم، بل قد تكون انتكاسة فعليّة لكامل التجربة الديمقراطيّة الناشئة التي تعيشها بلادنا منذ الثورة، إذا ما تورطّت الدولة في توظيف إمكاناتها المادية والمعنويّة واللوجستيّة لخدمة طرف على حساب آخر، وإذا ما انعدمت على أرض الواقع العدالة والمساواة بين مختلف المترشحين وغاب تكافؤ الفرص بينهم. في أيّ سباق، لا بدّ أن يكون الجميع عند نفس خط الانطلاق، بنفس الفرص وبنفس الحظوظ لتحقيق الفوز، وإذا مالت الكفّة للبعض منذ البداية، وهنا فإنّ البداية هي الحملة الانتخابيّة، فسنعلمُ مسبقا أنّه سيكون الأوّل دون منازع، وهذا ما يُفقد المرحلة الأخيرة من السباق، وهي في سياق حديثنا مرحلة الاقتراع وفرز الأصوات، أيّ قيمة ويحجب عنها أيّ انتظارات. وأخطر ما في تغييب حياد الإدارة ومنع تكافؤ الفرص بين المترشحين أنّ النتيجة لن تكون بالضرورة عاكسة لخيارات الناخبين وللإرادة الشعبيّة العامّة أو الأغلبيّة، من حيث هي القوّة الفعليّة في تحديد موازين القوى الحقيقيّة وضبط ملامح الحكم الممكنة في المستقبل.