مع كلّ عودة مدرسيّة تتعدّد المخالفات وتكثر التشكّيات في تجارة المواد المدرسيّة والمكتبيّة رغم المراقبة والعقوبة وسلطة الإعلام . وفي هذا الخضمّ، قبل عادة التحرّكات النقابيّة والتلمذيّة تعود بي الذاكرة إلى زمن الطفولة في بلدتي الطيّبة حيث كانت سمات الدراسة البساطة والتقشّف والتضحية بشعار « من طلب العلا سهر الليالي» . لم تكن حياتنا الدراسيّة مكلفة على أوليائنا أو مميّزة لغنيّ على فقير، كما لم تكن فيها دروس خصوصيّة إلاّ أن يتطوّع المعلّم في سنة الشهادة الابتدائيّة (السيزيام) بساعة مجانيّة لكامل القسم دعما للبرنامج وتوفيرا للمزيد من حظوظ النجاح. رحم الله ذلك الجيل الوطني المثابر المعتزّ بالاستقلال والمعوّل على الفكر والساعد لبناء المستقبل. بضعة أغلفة ومحفظة واحدة نقضي بها سنتين أو ثلاث، وفيها كتاب العربيّة وكتاب الفرنسيّة ولوحة وكرّاسان رقم 24 وأحيانا كرّاس آخر رقم 12 أو رقم 6، وبصفحة الغلاف الأخيرة جدول الضرب الذي نحفظه عن ظهر قلب . وللمعلّم كرّاس التناوب نتداول عليه يوما بيوم حتّى ينظر فيه المتفقّد ويرضى عن سيّدنا المحبوب. ولا تغيّر في البرنامج ولا تبديل في الكتب لأجل استقرار ضامن لتواصل الأجيال عبر نفس التكوين بما في ذلك المحفوظات . أمّا الأدوات فقلم رصاص وأقلام زينة وطلاّسة وطباشير ومبراة وصلصال ومسطرة وممحاة ومقصّ للسنوات الأولى، وكوس ومنقلة وبركار وضعف الديسيمتر للسنوات المتقدّمة . وأجمل الأدوات قلم بريشة عربيّة أو ريشة فرنسيّة متبادلتين مع محبرة في المنزل ومحابر في الطاولات القسم . من يصدّق من جيل اليوم أنّنا نجحنا بسلالة بعد مواصلة الدراسة في الثانوي والعالي ؟ رحم الله بورقيبة لهذا، وبارك لتونس في « لجنة التضامن الاجتماعي» فكرة ومؤسّسة مساعدة لضعاف الحال حتّى تخرّج منهم ومن الأرياف موظّفون سامون معوّضون للأجانب في مختلف القطاعات، خصوصا في الصحّة والتعليم . أقراني يتذكّرون هذا، ويتذكّرون المطعم المدرسي (la cantine) إذا ترشّفوا اليوم، بعد ستّين سنة، فنجان حليب بدينارين وأكثر أو تناولوا غداء بخمسة وأكثر. والشراب والطعام وأشياء أخرى من حياتنا التي عسّرناها على جيوبنا اليوم تذكّرنا بما رضينا به في ذلك العهد السعيد من أكل لما حضر ولبس لما ستر. وآخر الأشياء قيمة وثمنا ألعابنا من تمليس الطين إلى الخذروف والكجج ونوى التمر والمشمش والتكوير بالطلاّسة لربح نصف قلم رصاص . فمن يصدّق من جيل اليوم أنّنا بذلك عشنا طفولة هنيئة بريئة متوازنة بين درس ولعب وأكل ونوم؟ وحتّى إذا مرضنا فدواؤنا تقليدي من مواد المطبخ أو من نباتات الدار ما لم تشتدّ الحالة فنضطرّ الى شراء طابع «فيل» أو قرص «أسبيرين» بما أنّ المستوصف للحالات الاستعجاليّة والطبيب لا ياتي إلاّ يوم الجمعة . وكان الموت رحيما بالعباد ما دمنا لا نعرف الأسباب بما في ذلك المرض الخبيث الذي لم نكن نعرف له اسما . فمن عاجلته منيّته قلنا: «رحمه الله لخيره»، ومن طوّلت به قلنا: «عذّبه الله لشرّه». ثمّ نتقدّم للتعزية بالمغفرة الواسعة. تلك ذكريات بقي لي منها فكر حرّ وقلم سيّال لأكتب وأغيّر مستوعبا قسمه تعالى ب «نون والقلم وما يسطرون ...» (القلم: 1). ولكلّ مواطن مسؤول ومشارك أدواته المدنيّة، بعد تلك الأدوات المدرسيّة.