ما يجري هذه الأيّام في بلادنا ليس عبثيّا ولا مُفاجئا، هو في عمقه استكمال طبيعي لثورة 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011. لطالما شكّك الكثيرون في طبيعة التحوّل الذي تعيشهُ بلادنا منذ ثماني سنوات، وتحديدا منذ سقوط نظام بن علي، فنعتوه بالمؤامرة ووصّفوه بأنّه ربيع عبري، والحال أنّ كلّ المؤشرات تدفع الى الإقرار بأنّه تحوّل حضاري عميق في اتجاه الحريّة والديمقراطية وتكريس لإرادة الشعب في تثمين مآثر عقود من النضال والتضحيات والمناداة بالمطلب الديمقراطي التعددي. هو استثناء تونسي دونما شكّ، شرّعت له دماء الشهداء والجرحى قبل ثماني سنوات واستكملته اليوم صناديق ومكاتب الاقتراع تدليلا ثابتا لا تشكيك فيه بأنّ الشعب متمسّك بأهدافه في تحقيق التغيير المنشود في الانعتاق النهائي من هيمنة الاستبداد والتسلّط ولوبيات الفساد والإفساد وتحقيق حرّيته وكرامته. بالأمس وبمناسبة الدور الثاني للانتخابات الرئاسيّة أنجز الشعب ثورة هادئة عبر صناديق الاقتراع كذّب بها كلّ التوقعات وأسقط بواسطتها لوثة التهديد بعودة الاستبداد والأحقاد والعمى الإيديولوجي العفن والارتهان لأجندات الفوضى والتخريب، إذ أشارت معطيات الهيئة المستقلّة للانتخابات بعد غلق مكاتب الاقتراع أنّ نسبة المشاركة تجاوزت نسبة ال 60 %، أي أنّ أكثر من 4 ملايين ناخب توجهوا أمس الى مكاتب الاقتراع في ما يُشبه الهبّة الشعبيّة النادرة والفريدة ممّا يُعطي بعدا عميقا للنتائج التقديرية المعلن عنها والتي تذهب جميعها الى تأكيد حصول رئيس تونس القادم على أكثر من 70 % من الأصوات وهي نسبة مرتفعة جدا تمنحُ المرشح قيس سعيّد شرعيّة لتولي المنصب الأهم في الدولة التونسيّة والأكثر جاذبيّة للثقافة السياسية التونسيّة التي ما تزال رهينة فكرة الرئيس برغم أنّ الدستور حدّ من صلاحيّاته لفائدة رئيس الحكومة. حجم المشاركة وخاصة حجم الأصوات التي حصل عليها الرئيس قيس سعيّد تؤكّد الرغبة الجامحة والتطلع اللامحدود الذي كان يسكنُ غالبية التونسيّين في بحثهم عن شيء جديد، شيء بمواصفات القيم الأخلاقيّة والتواضع ونظافة اليد والابتعاد عن شبهات الفساد وعدم الارتهان إلى لوبيات المصالح أو الأجندات الخارجة عن القرار الوطني المستقل، وحينما وجدوا شخصا بتلك المواصفات زحفوا على مكاتب الاقتراع لتنفيذ إرادتهم بشكل حضاري ومدني استثنائي، التغيير عبر الصندوق لا عبر السلاح ولا عبر التزييف أو التلبيس أو حبك الدسائس والمؤامرات. الشعب أجبر غالبية الفرقاء السياسيّين على الاجتماع حول شخصية قيس سعيّد فقد عبّرت أحزاب وقوى من اليسار واليمين والوسط، ومن مختلف العائلات الفكريّة والسياسيّة (إسلاميون، قوميون، يساريون، بعثيون، دساترة) عن وقوفها خلف سعيّد معزّزة بذلك فرصة نادرة لوحدة وطنيّة فارقة فيها الكثير من رغبات تجاوز مخلَّفات الماضي وتجاذباته الايديولوجيّة وقطع خطوة أخرى في طريق المصالحة الوطنيّة الشاملة. الآن، وبمثل تلك الأرقام، وعلى ضوء تلك الممارسة السياسية الانتخابية الواعية والمسؤولة: ما شعور الذين شكّكوا في الاستثناء التونسي؟ ما شعور الذين عملوا على تعطيل الاستثناء التونسي؟ ما شعور الذين استهانوا بقدرات الشعب التونسي، شعب الجبارين على حدّ عبارة الراحل ياسر عرفات؟ الشعب التونسي، بملحمة انتخابات 2019 يُراكم منجزات جديدة في اتجاه التأسيس الديمقراطي، ويقودُ بذلك تحوّلا حضاريا رائدا ومتميّزا في كامل المنطقة.