نستقبل غدا يوم المولد المحمدي المنور، خير أيام الدنيا، يومٌ تجلَّت فيه الفضائل والرحمات التامات على هذا العالم، يومٌ كتب لنا فيه النجاة من السوء والضلال، يوم يعني لكل فرد من أفراد الأمة الحياة، فمن ضل عنه ضل عن الخير والبركة والنور: نذكِّر بحرص سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم على شكر الله تبارك وتعالى عليه لنفسه ولأمته؛ حتى أنه سَنَّ لهذه الأمة إحياءه بالمعروف. فقد سَنَّ سيِّدُنا رسولُ اللهِ محمدٌ صلى الله عليه وسلم إِحْيَاءَ يوم مَولده الرَّحِيْمِ، مُؤَصِّلا به وبمِثلِهِ (كيوم عَاشُورَاء الفَارِقِ): تشريعَ إحياءِ كلِّ مُناسَبة فَاضِلَةٍ بِالمَعْرُوف رغم أنف الزائغين المعاندين، الذين تعدوا حدود الحرمان من فتوح هذا اليوم العظيم إلى الوقوع بمن يتعرض له بإحيائه فرحاً وشكراً على فضل الله عز وجل ورحمته _؛ ففي الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؟ قَالَ: « ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ .. فِيهِ «. وقد تقرر: أن المظاهر الفعلية التي وردت في الشريعة: إن لم ينصّ الشارع على التقيُّد بها لا يكون المتروك دونها مما يبنى على أصلها منكراً، بل قد ترجِّح القرائن الخير الأعظم في المتروك؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يختار أو يترك بعض الأعمال للحكمة الحالَّة ( أي: المتعلقة بالأحوال الحالية في زمانه، كترك إعادة بناء الكعبة المشرفة ). ومن ثم، لا ينبغي أن يُغْبَنَ المسلمُ بهَرَج الزّائغين وتشدُّقِهم باتباع السنة والورع والتقوى فيما يلقونه على مسامع الناس من الشبهات: كقولهم هل فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟ هل فعل ذاك؟ أو بأنهم يفعلون ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فقط؛ إذ إن لم يكن كافيا فالضلال في سواه .. الى اخره من التلبيس والتهويل الذي يحققون به مآربهم المنكَرة بين الجهال والحمقى، فيما هم يعطلون به السُّنة؛ إذ تقرر في الشرع: أن الفعل ثلث السنة، ولا يستقيم الاستدلال به إذا جرد عن مدلوله الأصولي! وبالتالي: كان القوم بالتزامهم الواقع سلفا مجردا عن دلالته: مضيعين لحكمته التي قد تقضي شيئا فيه، ومن ثم: مضيعين للفعل بفعلهم. إن يوم المولد المحمدي: هو « يوم الرحمة العُظمى «! فتعرضوا لنفحات الله تعالى فيه .. تقربوا لله تعالى بما أمكن في هذه المناسبة ..وإن خير ما يستعد به المرء لهذه المناسبة الرحيمة: هو تجديد مقتضى العهد مع الله تبارك وتعالى، فجددوا إيمانكم، وجددوا أعمالكم.. قال الامام الحافظ ابن حجر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه على فضيلته بطريق الاستدلال الأولوي في حديث صوم عاشوراء، حيث ثبتت به مشروعية صوم الذكرى السنوية شكراً لله على نعمة نجاة موسى عليه الصلاة والسلام، فالأولى من ذلك بالمشروعية صيام يوم المولد شكراً لله على إنعامه بإيجاد نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: إن الحديث فيه بيان أن المقصود من الصوم الشكر، فكل عمل يحصل به الشكر فهو مشروع؛ لأن الشكر هو علة الحكم وسببه، فكل عبادة في ذلك مثل الصوم في الحكم باتفاق العلماء، كأنه منصوص عليها عند بعضهم، أو هي مقيسة عليه عند الآخرين، أمَّا غير العبادة من المباحات، التي تعبر عن الفرح فالأصل فيها الإباحة، ولا دليل على منعها .ويرى ابن تيمية: أنَّ السلف لم يعملوا الاحتفال بالمولد، ولو كان خيراً لسبقونا إليه، فهو بدعة، ويجيب الإمام السيوطي: بأن السَّلف لم ينقل عنهم فيه قول بمنع ولا مشروعية، فهم ساكتون، والحديث دليل إثبات، وهو مُقَدَّم إجماعاً على السكوت وعدم النقل المسمَّى بالاستصحاب. قال الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وما اجتمعت جوامع الفضل والرحمة في شيء من هذا العالم على القدر الذي اجتمعت فيه بسيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، فلم تحظ أمة بهذا القَدْر الذي جُمع لهذه الأمة المحمدية برسولها العظيم، ولن يقع للأمة مثله أبدا؛ فهو أكمل الكرم وأتم النعم.