جاء في حديث أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلاً قال لِلنَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أَوْصِنِي، قال: (لا تَغْضَب)، فَردَّد مِرارًا قال: (لا تَغْضَب)؛ رواه البخاري. ولأهميَّة هذه الوصية العظيمة وتَكْرار النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لها أطال العلماءُ الكلامَ على هذا الحديث، واعتنَوْا به عنايةً شديدة، وجعلوه من الأحاديث التي ينتخبونها للحفظ والمدارسة، واستخرَجَ بعضُهم منه أكثر من خمسين فائدةً، مع أنَّ أحرف الوصية التي جاءت فيه لا تزيد على سِتَّةِ أحرف. لقد كان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُوصي أصحابَه - رضي الله عنهم - بما هو مهمٌّ، وإذا سأله أحدهم وصيةً أوصاه بما ينفعه في نفسه؛ ولذلك أوصى رجلاً بكثرة الذِّكْر، وأوصى هذا بعدم الغضب، ولم يكن - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُكثِر من الوصايا أو يُعدِّدها على الرَّجل الواحد؛ لئلا ينساها الموصَى مِن كثرتها؛ وليكونَ أدعى للعمل بها؛ فإنَّ النفس البشريَّة تَضعُف في تطبيق الوصايا المتعدِّدة، وتَنشط في الامتثال للواحدة. والصَّحابي حين يقول للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: أوصني، فهو يسأله أن يدلَّه على بابٍ من الخير يلزمه، وقد أوصى هذا الصَّحابيَّ بعدم الغضب؛ ممَّا يدل على ذمِّ الغضب، وشدَّة فتْكه بالإنسان في دِينه ودُنياه؛ ولذا جاء في بعض روايات هذا الحديث أن الرَّجل قال: «فَفكَّرْتُ حين قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ما قال، فإذا الغَضبُ يَجْمعُ الشَّرَّ كُلَّه». وجاء في القرآن الكريم في فضْل كَظْم الغَيظ وَعْدٌ بجنَّة عرضُها السموات والأرض، وجاء في الحديث عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: (مَن كَظَمَ غَيْظًا وهو قادرٌ على أنْ يُنْفِذَه، دَعاهُ الله - تبارك وتعالى - على رؤوس الخَلائِق حتَّى يُخَيِّرَه مِن أيِّ الحُورِ شاء)؛ رواه أحمد. واجتناب الغضب سببٌ لرضا الله - تعالى - عن العبد؛ كما في حديث عبدالله بن عَمْرٍو - رضي الله عنهما -: أنَّه سَأَلَ رَسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ماذا يُباعدني من غَضِبِ الله - عزَّ وجلَّ؟ قال: (لا تَغْضب)؛ رواه أحمد، وجاء في حديث ابن عُمرَ - رضي الله عنهما - قال: (ما تَجرَّعَ عبدٌ جَرْعَةً أفْضلَ عندَ الله - عزَّ وجلَّ - من جَرْعَةِ غَيظٍ يَكْظِمُها ابتغاءَ وَجهِ الله تعالى)؛ رواه أحمد.وكلُّ هذه الأحاديث تدلُّ على أهميَّة مجانبة الغضب؛ ولذا وصَّى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - به هذا الرَّجل فقال: (لا تغضب)، وكرَّر عليه ذلك. واجتنابُ الغضب يشمل اجتنابَ أسبابه ومثيراته؛ فمِن الناس مَن يغضب إنْ جالس بعضَ مَن يستفزونه، فليجتنبْ مجالستَهم، وليباعدْ عمَّا يُثير غضبَه أينما كان، فيَسلَم من الغضب وإثمه، ومن الناس مَن يغضب على أهلِه وولده ورعيته إنْ رأى خللاً في طعامه، أو لباسه، أو بيته، أو وظيفته، وقطْعُ هذا الغضب يكون بالتغافُلِ، مع السَّعْي في إصلاح الخَلل بلا غضب. عن محمَّد بن عبدالله الخزاعي قال: سمعت عثمانَ بن زائدة يقولُ: «العافيةُ عَشَرةُ أَجزاءٍ؛ تسعةٌ منها في التَّغافُل، قال: فَحدَّثتُ به أحمدَ بنَ حنبلٍ، فقال: العافِيةُ عَشَرةُ أَجزاءٍ؛ كُلُّها في التَّغافُل». ويكون اجتنابُ الغضب بعدَ وقوعه بتسكينه، وتخفيف آثاره، والسيطرة على انفعاله؛ كما في حديث أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: (ليس الشَّديدُ بالصُّرَعَة، إنَّما الشَّديدُ الذي يَمْلِكُ نَفْسَه عندَ الغَضَب)؛ متفق عليه. والغضب مِن الشَّيطان؛ ولذا كان التعوُّذ بالله - تعالى - من الشيطان يُخفِّف الغضب ويُذْهِبه، وقد رأى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلاً غضبان فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: (إنِّي لأعلمُ كلمةً لو قالها لذَهبَ عنه ما يَجد، لو قال: أعوذُ بالله من الشَّيطانِ الرَّجيم)؛رواه البخاري. والغضبانُ مأمورٌ بالسكوت؛ لأنَّ التراشُق بالألفاظ يَزيد في الغضب، ويؤدِّي إلى القتال، وكم في المقابر من قتيلِ غضب! وكم في السُّجون من قاتلٍ في حالة غضب! ولو أخذوا بوصية النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في اجتناب الغضبِ وأسبابه وآثاره، لنجَوْا - بإذن الله تعالى - ممَّا هُم فيه. فإن كان خصيمَه أثناءَ غضبه زوجُه، فإنَّ الكلام يؤدِّي إلى الطلاق، وتفرُّقِ الأسرة، وضياع الأولاد؛ ولذا جاء في الحديث: (إذا غَضِبَ أحدُكم فَلْيَسكُت) . الخطبة الثانية إنَّ هذه الوصية العظيمة من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعدم الغضب، وما جاء في الأحاديث الأُخرى الكثيرة من معالجةِ الغضب وتخفيف آثاره - لَتدُلُّ دلالةً واضحةً على فتْك الغضب بالإنسان، وأنَّه يؤثِّر في دِينه ودُنياه، وقد ثبت عندَ أهل الطبِّ أنَّ الغضب سببٌ لكثير من أمراض العصر المزمنة؛ كالضغط، والسُّكر، وأمراض القلب، وغيرها. إنَّ الإنسان قد يفسُد عيشُه بسبب الغضب، فلا يطيقه أهلُه وولدُه والمقرَّبون منه؛ لكثرة غضبه، ولا يحسُّون بالأمن أثناءَ وجوده بينهم، وهذا مِن أهمِّ أسباب الوحشةِ والفُرْقة بين أفراد الأسرة الواحدة، وبعض الناس ما عاد يحتمل أحدًا؛ لسرعةِ غضبه وبُطءِ رِضاه، ولا يحتمله أحد، فيَمَلُّ النَّاسَ ويَمَلُّونه، ويُصاب بعزلة تَفتِك به، فمَن روَّض نفسَه على كبْح الغضب وقهر الشيطان، ارتاضتْ، فاندحر شيطانه؛ ذلك أنَّ الحِلْم بالتَّحلُّم، كما أنَّ العِلم بالتعلُّم، فلا يَقدر أحدٌ على إغضابه؛ لأنَّه يملك نفسَه، وأمَّا مَن جارى نفسَه الأمَّارة بالسوء، ولَعِبَ به هواه، وتقاذفته شياطينُه، واستطاع السفهاءُ من الناس استفزازَه - فهو ضعيف، وإنْ بدا للناس قويًّا. والغضب لمحارم الله - تعالى - التي تُنتهك محلُّ مدحٍ وثناءٍ في الشريعة؛ وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أشدَّ الناس غضبًا إذا انتهكت لله - تعالى - حُرْمة، كما جاء في الأحاديث الكثيرة، ومع ذلك يجب أن يكونَ هذا الغضب موزونًا بميزان الشَّرع، لا يصل بصاحبه إلى الإفراط والغلو، وإلاَّ لأهلك النَّفْس وأوْبَقها، وأوْقعها في التألِّي على الله - تعالى.