كثرت خلال الأيام الأخيرة ظاهرة احتكار السلع الغذائية بشكل ملفت نتج عنه الحاق الضرر بالموانين في قوتهم وفي كثير من حاجياتهم الأساسية . وقد ارتأينا ان نفتح ملف هذا الأسبوع للبحث في رأي الشرع الحنيف في هذه الظاهرة الخطيرة . الاحتكار هو حبس مال أو منفعة أو عمل، والامتناع عن بيعه وبذله حتى يغلو سعره غلاءً فاحشاً غير معتاد، بسبب قلته، أو انعدام وجوده في مظانه، مع شدة حاجة الناس أو الدولة أو الحيوان إليه(. ويستفاد من هذا التعريف أن الاحتكار هو حبس ما يحتاج إليه الناس، سواء أكان طعاماً أم غيره مما يكون في احتباسه إضرار بالناس وتضييق الحياة عليهم، وهذا بإطلاقه شامل لكل شيء من المواد الغذائية، والثياب، ومنافع الدواء، والأدوية، وآلات ومواد الإنتاج الرزاعي والصناعي، كالمحاريث والأسمدة، كما يشمل منافع وخبرات العمال، وأهل المهن والحرف والصناعات، والفنيين، وأصحاب الكفاءات العلمية، إذا احتاج المجتمع إلى مثل تلك السلع والمنافع والخدمات، إذ المناط هو حقيقة الضرر من حيث هو بقطع النظر عن نوع الشيء المحتكر، فيجبر هؤلاء على بذل ما لديهم، رعاية لحق المجتمع، ودفعاً للضرر عنها في مثل هذه الظروف، بالثمن أو أجر المثل العادل، إذا امتنعوا عن ذلك. وأساس هذا الأمر أن كل ما لا تقوم مصالح المجتمع أو الدولة إلا به فتحصيله واجب. ولم يقيد التعريف بما إذا كانت الأموال المتحكرة مجلوبة أي مستوردة من الخارج، أو كانت موجودة في سوق المدينة فاشتريت وحبست، أو كانت مستغلة من أرض المحتكر نفسه. كما شمل التعريف كل ما أضر بالإنسان والدولة والحيوان حبسه، وذلك من مميزات الشريعة الإسلامية التي شملت أحكام الرفق بالحيوان، " في كل ذات كبد رطبة أجر " . وأظهر التعريف الحاجة التي هي علة تحريم الاحتكار؛ فليس كل ظرف من الظروف يكون فيه حبس هذه الأشياء احتكاراً، وإنما يكون احتكاراً في ظرف الحاجة الذي يقع فيه الضرر، فإذا لم يوجد مثل هذا الظرف كان الادخار احتباساً مباحاً، لأنه تصرف في حق الملكية بل قد يكون واجباً إذا كان اختزاناً احتياطياً. وأبرز التعريف ظاهرة الحاجة التي هي مناط تحريم الاحتكار، وتشريع أحكامه، إذ ليس كل ظرف يعتبر فيه حبس هذه الأشياء احتكاراً محرماً، بل ظرف الحاجة الذي يوقع في الضرر هو المناط حتى إذا لم يتحقق هذا المناط كان اختزاناً، أو ادخاراً مباحاً، لأنه تصرف في حق الملكية. ونحن نعلم أن مبنى التقييد بالحاجة هو أن دفعها أو الوفاء بها من مقاصد التشريع العامة (الحاجيات) فيشرع لها من الحكم ما يناسبها، إيجاباً أو سلباً، استثناء من قواعد الشرع. وقد اجمع جمهور العلماء من المالكية، والشافعية على الصحيح عندهم، والحنابلة، والظاهرية وغيرهم. على حرمة الاحتكار واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة والمعقول والأثر، ومن أدلتهم من القرآن الكريم قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَاد وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) الحج 25. ووجه الدلالة: قال الإمام القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: روي عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«احتكار الطعام في الحرم إلحاد فيه»، وقد فهم من هذا صاحب الاختيار الحنفي أن الآية أصل في إفادة تحريم الاحتكار. وقال الإمام الغزالي عند تفسيره لهذه الآية: إن الاحتكار من الظلم وداخل تحته في الوعيد. ومن السنة النبوية: ما روي عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبدالله العدوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا يحتكر إلا خاطئ" . ووجه الدلالة التصريح بأن المحتكر خاطئ كاف في إفادة عدم الجواز، لأن الخاطئ هو المذنب العاصي وهو فاعل من خطئ من باب علم إذا أثم في فعله . ومنها: ما روي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليغليه عليهم كان حقاً على الله أن يقعده بعظم من النار يوم القيامة". ويتفق الفقهاء على أن الحكمة في تحريم الاحتكار رفع الضرر عن عامة الناس، ولذلك فقد أجمع العلماء على أنه لو احتكر إنسان شيئاً واضطر الناس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه، دفعاً لضرر الناس، وتعاوناً حصول العيش كما يجوز مصادرة الحاكم للمال المحتكر إذا خيف الهلاك على أهل البلد، وتفريقه عليهم وعلى الدولة أن تتدخل باتخاذ كافة الإجراءات لحماية الأفراد من الاحتكار والمحتكرين .