أشار التقرير السنوي للبنك المركزي لسنة 2018 الذي نشره في أوت الفارط الى تفاقم عجز الميزان التجاري بما قدره 3,457 مليون دينار، سنة 2018، ويبلغ مستوى قياسيا في حدود 19 مليار ديناروهذا المبلغ يعادل 17,9 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي وساهم هذا التدهور في تسجيل مستويات مرتفعة للعجز الجاري، سنة 2018، بقيمة تناهز 11,7 مليار دينار، أي ما يعادل 11,1 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي مقابل 9,8 مليون دينار و10,2 بالمائة على التوالي خلال 2017 .. تقرير البنك المركزي فسر ذلك التدهور الرهيب في عجز الميزان التجاري بالنمو الكبير في الواردات بنسق أعلى من الصادرات، 20 بالمائة و19,1 بالمائة على التوالي وانخفضت، بالتالي، نسبة التغطية بنسبة 0,5 نقطة مائوية الى مستوى 68,3 بالمائة. تواصل النزيف ؤغم نواقيس الخطر تلك التي قرعها بكل قوة تقرير البنك المركزي لسنة 2018 والتي واصل الاشارة اليها في تقاريره الفصلية لهذه السنة فان النزيف لم يتوقف او بالاحرى لم تعمل الحكومة على ايقافه حيث اشار المرصد الوطني للفلاحة في آخر تقاريره الصادرة نهاية الاسبوع الفارط الى ارتفاع عجز الميزان التجاري الغذائي في العشرة الاشهر الاولى لهذه السنة ليصل الى 1344،5 مليون دينار مقابل 357،8 مليون دينار، خلال نفس الفترة من سنة 2018، وذلك بفعل ارتفاع اسعار الحبوب المورّدة وتراجع زيت الزيتون واشار المرصد الى تفاقم ضعف نسبة تغطية الواردات بالصّادرات خلال اكتوبر الفارط لتبلغ 71،9 بالمائة مقابل 91،4 بالمائة، خلال اكتوبر 2018 حيث سجلت الصادرات الغذائية ارتفاعا بنسبة 14،3 بالمائة في حين زادت الواردات بنسبة 9 بالمائة. نفس تلك «الارقام السوداء» والمؤشرات القاتمة قدمها المعهد الوطني للاحصاء حول عجز الميزان التجاري لتونس بالأسعار الجارية ليؤكد انه في العشرة الاشهر الاولى من هذه السنة كان بحجم 16506,5 مليون دينار مقابل 15985,5 مليون دينار خلال الفترة ذاتها من 2018 لان قيمة المبادلات التجارية لتونس مع الخارج بالأسعار الجارية بلغت الى 31 اكتوبر الفارط مستوى 36728,3 مليون دينار عند التصدير و53234,8 مليون دينار عند التوريد، مسجلة بذلك ارتفاعا بنسبة 10,5 بالمائة على مستوى الصادرات و8,2 بالمائة على مستوى الواردات. وتظهر المؤشرات المتعلقة بالمبادلات التجارية بالأسعار القارّة أنّ القطاعات، التي تعد الأهم في الاقتصاد التونسي شهدت تراجعا، خاصّة مع تقلص حجم صادرات عدة قطاعات خلال الاشهر العشر الاولى من 2019 من ذلك الصادرات الفلاحيّة والصناعات الغذائية، التي انكمشت بنسبة 18,7 بالمائة والنسيج والملابس والجلود بنسبة 4,6 بالمائة والصناعات الميكانيكية والكهربائية بنسبة 2,4 بالمائة. نفس الأسباب تؤدي الى نفس النتائج من نافلة القول التذكير ان اسباب اختناق الميزان التجاري لتونس ليست جديدة وبحت اصوات الخبراء من الاشارة اليها فالسبب الرئيس وراء تلك الحصيلة المفجعة التي خلقت انخراما يكاد يكون مزمنا في الميزان الجاري وسبب عاهة مستديمة في الميزانية وانحدارا واضحا في الدينار ونقضا مريعا في رصيد البلاد من العملة الصعبة هو التدهور الحاصل في الميزان التجاري الغذائي الذي سجل خلال الاشهر الفارطة من سنة 2019 تراجعا في نسبة تغطية الواردات بالصادرات بسب ارتفاع قيمة الواردات الغذائية وتقلص الصادرات جراء تراجع عائدات زيت الزيتون من حيث القيمة والكمية اضافة الى ارتفاع واردات بعض المواد الغذائية على غرار الشعير والذرة الصفراء والقمح اللين مع ارتفاع أسعارها في الاسواق العالمية، بالإضافة إلى ارتفاع وتيرة توريد مواد غذائية أخرى كالحليب ومشتقاته والقهوة والسكر والزيوت النباتية ومادة البطاطا .. هذا التراجع المستفحل من سنة إلى أخرى اسبابه الرئيسية التباطؤ المسجل في الاقتصاد الوطني مما ادى إلى تراجع صادرات تونس من المواد الصناعية واكتفاؤها في النسبة الاغلب بتصدير المنتجات الفلاحية التي تراجع انتاجها هذه السنة بفعل الجفاف والنقص الحاصل في زيت الزيتون اضافة الى تراجع الدينار امام العملتين الرئيسيتين المتعامل بهما في التجارة الخارجية التونسية وهما الدولار والاورو طبعا دون نسيان تعطل الانتاج لاكثر من سبب اذ اضافة الى الافراط في استعمال سلاح الاضرابات فان ثقافة العمل صارت تقريبا منعدمة عند عموم العمال والموظفين في كل القطاعات كما ان النزعة الاستهلاكية المتفاقمة عند التونسيين دفعتهم الى الاقبال على اقتناء كل المعروضات مما يغري عديد المستثمرين بالترفيع في وارداتهم حتى مما لا نحتاجه في تونس او مما ننتجه لان التوريد اقل كلفة بالنسبة لهم من فتح المصانع والاستثمار في مناخ يتميز بالضبابية وعدم الاستقرار على كل المستويات ولم تقم وزارة المالية ولا وزارة التجارة ولا الحكومة برمتها باي ردة فعل لايقاف نزيف توريد ما لا نحتاجه على الاقل حتى نحافظ على موجوداتنا من العملة الصعبة التي استقرت دون المستوى المطلوب وحتى ان ارتفعت فليس لاسباب دائمة بل لاسباب عرضية مثل حصول تونس على قرض من جهة ما وهو ما يعني ان ذلك الارتفاع الذي نهلل ونطيل له ليس الا لفترة عابرة لا غير والحكومة في كل ذلك لا تبدي أي رد فعل يؤكد عزمها على تجاوز اسباب ارتفاع الواردات الغذائية فالحبوب بقيت ملقاة على قارعة الطريق في هذا الموسم الذي سجل صابة قياسية الا ان ظروف الخزن كانت مزرية بل انعدمت المخازن ووسائل نقل المحاصيل الى مجمعات الحبوب وهو ما ادى الى تلف كميات كبيرة بفعل العوامل الطبيعية من امطار وحتى من كميات الندى التي تتعرض لها كل ليلة وهي متروكة في العراء وكان من الممكن ان تشجع الحكومة المستثمرين الخواص على الاستثمار في بناء مخازن متطورة فتفيد وتستفيد اما زيت الزيتون ورغم انه المعول عليه بدرجة اولى لتعديل الميزان التجاري فانه مازال دون تثمين ويعاني من قلة المعاصر ومن ظروف العصر والتخزين وايضا يعاني الفلاح من المضاربين في كل موسم ممن يقتنون منه الزيتون باقل الاسعار ليجد لتر الزيتون تباع في افضل الاحوال بعشرة دنانير فيرى عرقه يسرق وجهده يستفيد منه من له اموال لشرائه باقل الاثمان ثم يتولى بيعه للمعاصر او يقوم هو بعصره ويتولى تصديره بعائدات مربحة له في كل الاحوال لانه اقتنى الزيتون باسعار بخسة ويجد مع ضعف الاسعار التي يصدر بها او يبيع للمصدرين هامش ربح معقول له مادامت الكلفة لديه ضعيفة. التوريد العشوائي الخلل لا يكمن فقط في التهريب كما يدعي بعض المسؤولين الذي يبقى خطره منحصرا في المناطق الحدودية بل يمثل متنفسا لابناء تلك الجهات في غياب تنمية حقيقية هناك تغنيهم عن ركوب الخطر باللجوء الى التهريب بل يكمن ايضا في التوريد العشوائي الذي تم تقنينه وفق كراس شروط صدر منذ سنوات ما قبل الثورة إلا ان تطبيق ما جاء فيه لم يحصل ليتم توريد كميات كبيرة من منتجات يتم تصنيعها في تونس فكان الضرر مضاعفا باستنزاف رصيد البلاد من العملة الصعبة وايضا ضرب المؤسسات الوطنية التي فقدت جراء ذلك قدراتها التنافسية وخسرت اسواقا خارجية كثيرة بل وصارت مهددة بالافلاس مما منعها من تطوير وسائل انتاجها. والملفت للانتباه ان الحكومات المتعاقبة لم تحرك ساكنا ازاء هذه المعضلة كما تقاعست في توفير الدعم اللوجستي للمؤسسات الوطنية على عدة مستويات اذ فشلت الحكومات في حل معضلة النقل وايضا التمويل في ظل قانون صرف جامد لم يواكب تطورات العصر وعالمية الاستثمار اضافة الى انعدام المرافقة الديبلوماسية للمؤسسات التونسية للولوج الى اسواق خارجية جديدة بل ان الدعم لبعض الهياكل الساعية الى فتح اسواق جديدة في افريقيا خاصة مثل كونكت ومجلس اعمال تونس افريقيا كان محتشما رغم الدراسات المنجزة اثر رحلات استكشافية لبعثات اقتصادية تونسية من الهيكلين المذكورين. هذه الرحلات اثبتت ان القارة السمراء سوقا واعدة يمكن ان تمتص العجز المسجل في الميزان التجاري لو تم تيسير وصول المنتجات التونسية الى هناك.