تنامت ظاهرة الجريمة في المجتمع التونسي خلال السنوات الأخيرة بمختلف أشكالها وأنواعها وفي أبشع صورها وهي ظاهرة تستحق أن نقف عندها للدراسة والتحليل وخاصة من طرف أهل الاختصاص للوقوف على أسبابها نظرا لخطورتها على أمن الأفراد والجماعات. وقد جرم الشارع الاعتداء فقال سبحانه وتعالى: «ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها.» وقال تعالي: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين.) وقال تعالى: « ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله علي ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولي سعي في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد». وقال عز وجل: « ولا تطيعوا أمر المسرفين .الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون. ومما يدل علي عظم جرم الإفساد في الأرض أن الحق سبحانه جعله بمثابة محاربته ومحاربة رسول الله صلي الله عليه وسلم. وقد بين الحق سبحانه وتعالي الجزاء الدنيوي والأخروي الذي يتسحقه كل مفسد في الأرض سواء قتل أو أخاف السبيل وروع الآمنين أو أخذ المال فقط أو قتل وأخذ المال وذلك في سورة المائدة فقد قال تعالي: «إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم». فالجريمةُ سلوكٌ شاذٌ، يُهددُ أمنَ الأفرادِ، واستقرارَ المجتمعاتِ، ويقوض أركانَ الدولِ، ولذلك اهتمت المجتمعاتُ قديماً وحديثاً بموضوعِ التصدي للجريمةِ ومكافحتِها، ولم يخلُ مجتمعٌ من آليةٍ ما لمكافحةِ الجريمة.والإسلامُ باعتبارِهِ دينُ صلاحٍ وإصلاحٍ تصدى للظاهرة الإجرامية حتى أصبح وقوعُ جريمةٍ استثناءً من الأصل العام في الاستقامة، وكثيراً ما كان المجرمُ يسعى بنفسِهِ إلى إقامةِ الحدِ عليه أملا في تطهير نفسِهِ من الذنب الذي ارتكبه . أنَّ منهجَ الإسلامِ في مكافحةِ الجريمةِ يقومُ على أسلوبينِ رئيسيينِ، الأولُ هدفُهُ منعُ وقوعِ الجريمةِ أصلا، أما الثاني فهو يأتي بعد وقوعها وهدفُه منعُ تكرارِها سواءٌ من فاعلِها أو من غيرِهِ. يُشكلُ هذا الأسلوبُ سبقاً تشريعياً انفردَ بِهِ الإسلامُ على مدىً يَصلُ إلى أكثرَ من عشرةِ قرون، فأولُ ما جاء به الإسلام هو تغيير النفوس من الداخل عن طريق الإقناع بالحجة والبرهان، فالقلب هو الذي بيده أمر الجوارح التي تقترف بها المعاصي وترتكب بها الجرائم، فإذا أمسك بزمام القلب فقد تم الإمساك أيضا بزمام الجوارح، لكن كيف تم للإسلام الإمساك بزمام القلوب ؟ . لقد تم للإسلام ذلك عن طريق ربطه بالإيمان بالله تعالى لأن الإيمان عملية ضرورية وقوة خلاقة تَحملُ النَّاسَ على العملِ والالتزامِ، ولم ينكر أحد هذا الدور للإيمان. ولم يكن الإيمان الذي دعا إليه الإسلام مجردَ أقوالٍ أو أفكارٍ،بل ضَبطَهُ وحولَّهُ إلى حقيقةٍ واقعيةٍ عن طريقٍ العبادات، وهي أقوال وأفعال تصقل النفوس وتربيها حتى يكون تغيير القلب مصحوباً بتغير في الجوارح كلها، إن أكثر الجرائم التي تقع من المسلمين اليوم تقع في العادة من أناس ضعيفي الإيمان، تاركي الصلاة والصيام، ولذلك ورد في عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبةً يرفعُ الناسُ إليه أبصارَهم وهو مؤمن). الشريعة أغلقت كل منافذ الجريمة تربويا قاومت الشريعة الإسلامية الجريمة قبل وقوعها وحرصت على حماية الأخلاق وشدّدت في هذه الحماية بحيث تكاد تعاقب على كل الأفعال التي تمس الأخلاق لتحقيق مصالح الخلق في الدنيا والآخرة وذلك بإقامة مجتمع صالح يعبد الله ويعمر الأرض ويسخر طاقات الكون في بناء حضارة إنسانية يعيش في ظلها الإنسان في جوّ من العدل والأمن والسلام، وأرست دعائم منهج وقائي عظيم، فما تكاد ترى جانبا من جوانب الحياة، إلاّ ووضعت للأفراد أو الأسر أو المجتمعات فيه من التدابير الوقائية ما يصونهم عن الزلل، ويحفظهم من الخطر، لتبقى النفوس سليمة، والقلوب متعلقة بربها، محافظة على فطرتها. والشريعة الإسلامية في تعاملها مع مشكلات المجتمع ومن بينها الجرائم لا تعتمد على أسلوب التشريع أو الرادع الخارجي فحسب بل تركز بالإضافة إلى ذلك على الوازع الداخلي، فهي تهتم بالضمير الخلقي اهتماما أكبر وتسعى إلى تربيته منذ الصغر لدى الإنسان حتى يتربى على الأخلاق الفاضلة، وتربط ذلك كله بالوعد الأخروي، فتعد من يعمل الصالحات بالفوز والفلاح وتنذر المسيء سوء المصير، ومن ثمّ فهي تثير الوجدان حتى يساهم في إقلاع المجرم عن الإجرام إيمانا بالله ورجاء لرحمته وخوفا من عذابه والتزاما بالأخلاق الفاضلة حبا للآخرين وإحسانا إليهم وتركا للإساءة إليهم. واعتبر الإسلام الحفاظ على الدين والنفس والعقل والنسل والمال من المصالح الضرورية التي كفلها ومنع الاعتداء عليها وحماها بالنصوص القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، فلحفظ النفس شرع القصاص، ولحفظ الدّين شرع حد الردة، ولحفظ العقل شرع حد الخمر، ولحفظ النسل شرع حد الزنا، وللحفاظ على المال شرع حد السرقة، ولحماية هذه كلها شرع حد الحرابة. إن علاج الجريمة يبدأ بإصلاح القلوب، ويتمثل ذلك بالإيمان بالله واليوم الآخر الذي يجعل الفرد يعتقد أن ربه يراقب كل حركاته وسكناته. والإيمان يجعل العبد يستسلم لأحكام الله طواعية ويجعله يرضى بتلك الأحكام كلها، لأنه يعلم أن ذلك يوجب له الثواب الجزيل، وأن من خالفها متوعد بالعذاب الشديد. لقد وعد الله بإحلال الأمن بين النّاس الذين يؤمنون به ويعملون الصالحات ويعبدونه ولا يشركون به شيئا، فقال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور 55) وأهم وسائل الوقاية من الجريمة التخويف بالعقاب الإلهي الدنيوي والأخروي ممّا يدفع النفس المؤمنة إلى الابتعاد عن المعاصي عموما وما يعد من قبيل الجرائم خصوصا. جاء في الحديث الصحيح وصفُ حال مانع الزكاة التي هي جريمة في حق الفقراء بأن مالَه يأتي في صورة ثعبان يُطوِقُ صاحبه يوم القيامة، وأخبر الله بأن آكل مال اليتيم إنّما يأكل في بطنه النار، فقال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} (النساء 10) وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ثمة موقفا قبل دخول الجنّة يسمّى موقف القصاص وأخذ المظالم، وأنّه أول ما يقضى بين النّاس في الدماء سواء كانت قتلا أو جروحا. ومن المميزات الظاهرة للشريعة الإسلامية أنّها لم تقتصر في مواجهة الرذيلة والجريمة على عنصر الترهيب والعقاب فقط، بل هي تشمل عنصر الترغيب والثواب وهو أمر مفتقد تماما في الشرائع الأرضية، وذلك أننا كما نجد العقاب الوعيد في حق من اقترف الإثم والجرم، نجد أيضا الثواب والوعد العاجل والآجل لمن ترك الجرم أو لمن داوم وصبر على ضدّه الذي لا يكون إلا فضيلة، ولا شك أن هذا ممّا يقوي دافع الامتناع عن الجرائم والابتعاد عنها في نفوس المؤمنين.