كلّما وصل إلى سمعي صوت بائع متجوّل ينادي مشهرا سلعة تذكّرت من زمن الطفولة باعة جوّالين بمختلف السلع من إسبانيّات يبعن «الريكامو» إلى بائع الهندي وبائع ماعون الأليمنيوم أو البلاستيك إلى الذي ينادي : «ثلاث أباري بابور بدورو» أي ثلاث إبر لتسريح موقد النفط بخمسة ملّيمات. عصرئذ كان ذلك النوع المستحدث من المواقد المنزليّة ب «الطرمبة» و«الشملّيرة» علامة رقيّ للعائلة مقارنة بالتي مازالت تطهي الغداء والعشاء والقهوة والشاي والخبز على الحطب بين الأثافي أو في الطابونة أو على الفحم في الكانون وأحيانا في فرن الحي، وذلك قبل انتشار أفران الغاز ومتطوّراتها. لم يكن ثمّة عجين معلّب كالمقرونة أو خبز يباع في السوق حتّى ظهر «البلانكيت» نوعا واحدا لا منافس له فخفّف عن أمّهاتنا حمي الطابونة أو الطاجين أو الغنّاي حسب أنواع الخبز التقليدي واستغنين عن العولة الجهيدة. ولم تكن ثمّة حقق للطماطم المعلّبة بأقلّ من خمسة كلغ، فكان التاجر يفتح بالسكّين واحدة ليبيع منها بالتقسيط بقيمة عشرين ملّيما ما يضعه في ورقة نأخذها بإصبعين أخذ البريكة . وكنّا نتصرّف في نقود بقيمة فرنك أو فرنكين أو خمسة و عشرين فرنكا. وهذه تصلح لشراء الخير والبركة كما يقال. ومع ذلك كانت المرحومة عمّتي، وكانت في الستين أو السبعين من عمرها الطويل، تتحسّر متأوّهة ومديرة رأسها الملفوف إذا استغلت شططا كأن يكدّس أمامها المرحوم أبي مشتراه من الخضر قائلا : «انظري إلى هذا البصل، الكيلو بمائة مليم ! «ولتقدير الغلاء أذكر – بين قوسين – أنّه كان يرسل إليّ، وأنا تلميذ مقيم بمعهد مدينة بجوار عشرين كلم، مائتي ملّيم في الأسبوع لعلّي أشتهي أكلا أو شربا. وقد فصّلت هذا في سيرتي المنشورة «بلدة طيّبة» لمن شاء أن يعرف ما فعلت بما جمّعت. كانت المرحومة تقول لي إنّها كانت تنسج الفرّاشيّة بشقاء وتبيعها بفرنك واحد يكون مصروف شهر كامل. وكانت تحدّثني عن مواد غذائيّة تباع بالأوقيّة والعشوريّة مثلما كان الزيت يشترى بربع اللّتر أو نصفه لمن تبذّخ. وكان خبزنا قليله سميدا وكثيره «كشكارة» من قبل أن يعرّفنا الأطبّاء وخبراء التغذية بمنافع الألياف، كما كان اللحم أدمنا مرّة في الأسبوع من طير نذبحه أو شاة تشاركيّة أو كان رطلا من الجزّار. أتخيّل اليوم أبي وعمّتي يبعثان من قبريهما لرفقتنا في الأسواق والفضاءات التجاريّة مع اختصار الجولة عند الأسياد الأربعة : الفلفل والطماطم والبطاطا والبصل دون أجنحة الحليب ومشتقاته واللحوم والأسماك والفواكه ومواد التنظيف والتجميل والملابس والأحذية والتجهيزات المنزليّة ... لا شكّ أنّهما سيعجّلان بالعودة فرارا إلى عالم الموتى الأرفق والأرحم من حياتنا الضّنكى .. و«تحيا تونس» . لا، لا، لا، بل عاشت تونس فوق الأحزاب والنوّاب و .... إلى آخر القائمة.