18 ميلا بحريا هي المسافة الفاصلة بين جزيرة قرقنةوصفاقس يقطعها «اللود» في ساعة ونيف، تنضاف إليها فترة الانتظار أو «الصف» ..هذا في الرحلات العادية. لكن مع تغير المناخ وتقلبات الطبيعة تتضاعف الفترة الزمنية، لتصبح الرحلة إلى جزيرة الأحلام معاناة .. (الشروق) مكتب صفاقس الحديث عن سفرات «اللود» أو "البطاح" بين الأهالي، كالحديث عن لبن الأم. فلا حياة في قرقنة دون « اللود « أو «البابور». فهو عصب الحياة وشريانها في جزيرة قرقنة المتاخمة لمدينة صفاقس. فالتنقلات والسفرات ونقل المؤونة، كلها لا تتم إلا باللود او «البطاح» او «البابور» التي تحمل اسم حشاد والحبيب عاشور وقرقنة وسرسينا وغيرها من الاسماء الأصيلة . «اللود»، لفظ دخيل عن اللغة العربية وهو من أصل لاتيني قديم. وقد تم استعمال هذا المصطلح حسب أستاذ التاريخ بجامعة صفاقس الدكتور عبد الحميد الفهري، بعد القرن ال12 ميلاديا. ويعني نوعا من السفن ذات قعر منبطح. وهذه السفينة تطفو حتى على عمق قليل من البحر .. وبعيدا عن هذا التعريف والمصطلح المتداول الذي يؤكد عراقة الجزيرة، تقول الدراسات إن عدد سكان أرخبيل قرقنة في تراجع كبير. فبعد أن كانت الجزيرة تعد 26 الف ساكن في بداية الاستقلال، تراجع العدد إلى 14 الفا فقط حاليا، بسبب ضعف الموارد المالية والتشغيلية، وصعوبة التنقل منها وإليها، وانعدام المرافق. صيفا، دائما وحسب الإحصائيات الرسمية، يقفز عدد الوافدين عليها إلى ما يقارب ال350 الفا أغلبهم من أصيلي الجزيرة الذين يشدهم موطنهم « سرسينا « وهو الاسم القديم لقرقنة. وتنفرهم خدمات التنقل والشغل في جزيرة كان بالإمكان استغلال جمال طبيعتها وثرائها الحضاري لتتحول إلى قطب سياحي دولي لا مثيل له في حوض البحر الأبيض المتوسط . ويؤكد الدارسون أن صعوبة التنقل من أهم الأسباب التي دفعت بالأهالي إلى مغادرة مسقط رأسهم قسرا ليتوزعوا في أغلب جهات البلاد وخاصة مدينة صفاقس التي تربطها بالأرخبيل علاقات قرابة ومصاهرة تاريخية عميقة. ويكفي أن تقرأ ألقاب العائلات في قرقنة و في صفاقس فتجدها هي ذاتها. بل هي القاسم المشترك بين المدينتين. مطار محمد الأمين باشا سنة 1954 -في وثيقة نادرة تحصلت عليها « الشروق «- اتخذ محمد الأمين باشا باي قرارا في إنشاء مهبط طيران أو مطار صغير بمنطقة الرملة. وللغرض تطوع عدد من السكان بأراضيهم لهذا المشروع الذي كان وليد حاجة الجزيرة إلى شكل جديد من التنقل يقطع مع ركوب البحر ومعاناته . ففي سنة 1954، قال القائمون على البلاد لا بد من تغيير طريقة التنقل من قرقنة واليها . لكن بعدها بسنوات، وفي أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، ارتفعت الأصوات المنادية بإنشاء جسر يربط بين صفاقسوقرقنة. ومع هذه الأصوات ارتفعت أصوات أخرى تقول لا للقنطرة محافظة على خصوصية قرقنة التي تم إدراجها ضمن المدن السياحية حبرا على ورق شأنها في ذلك شأن مشروع سيدي في النخل .. انتهى مشروع الجسر أو القنطرة.لكنه بقي حلما يراود أهالي قرقنة إلى اليوم. ف «القنطرة هي الحياة « وهي الحد الفاصل بين المعاناة وارتفاع تكلفة العيش والكساد السياحي والتنموي والتهميش، وبين الحياة العادية على غرار بقية الجهات بما فيها جزيرة جربة .. الأصوات ترتفع من حين إلى آخر.والمبادرات عديدة وتنادي بالقنطرة.لكن الجهات المسؤولة لا تحرك ساكنا أمام مطلب شرعي يغير وجه الحياة بقرقنة. ويحول الأرخبيل المنسي إلى درة المتوسط بما يمتلكه من خصوصية تجمع بين الإرث الحضاري والثقافي والطبيعة البكر الخلابة التي تخفي كنزا يمكن استغلاله خدمة للتنمية لا في الجزيرة فقط، بل في البلاد قاطبة . قرقنة -بفضل خيراتها الباطنية وخاصة البترول والغاز- لم تتمكن من تجاوز حالة التهميش الدائمة ...قرقنة عوقبت في السابق من أجل مواقف نقابية وسياسية. واليوم يتواصل التهميش والعقاب مع أحفاد حشاد وعاشور. والدليل حادثة الضباب ورحلة ال10 ساعات في البحر في ليلة شديدة البرودة بلا مؤونة وبلا ماء رغم مجهودات الشركة الجديدة للنقل بقرقنة التي باءت بالفشل بسبب الضباب فقط ... حنبعل مر من هنا هذه الحالة ليست منفردة ومعزولة. فمع التقلبات الجوية، تعزل قرقنة بالكامل. فتغيب المؤونة والخبز. والثابت أنه مع المتغيرات المناخية المسجلة في العالم اليوم بفعل الانحباس الحراري، ينتظر أن تزداد الوضعية تعكرا في جزيرة قرقنة التي تعاني أصلا من مد البحر وتوسعه على حساب اليابسة. وهو ما يهدد وجود الجزيرة أصلا في قادم السنوات حسب الدراسات الوطنية والدولية .. الاهتمام بقرقنة التي تكتنز في قاعها البترول وجزءا كبيرا من التراث الإنساني، وعلى سطحها جمال طبيعي خلاب موشح بنخيل باسق وزياتين وتين أصلها ثابت وفرعها يعانق معالم تاريخية ضاربة في القدم تواجه بحرا جميلا متعة للسائح ورزقا لبحار كريم ومضياف ..هذه هي صورة قرقنة التي عمّرها الفينيقيون منذ القرن الثاني عشر قبل الميلاد. وغرسوا فيها الزياتين والكروم. وأطلق عليها « هيردوتس « اسم « كيرانيس « التي فر إليها حنبعل إلى سوريا كما فر اليها القائد الروماني ماريوس متجها بجيشه إلى روما. قرقنة أو الكنز المنسي والمهمش في حوض البحر الأبيض المتوسط، يعاني سكانها « من مليتة للعطايا» المتشبثون بتربتها من ندرة في فرص الشغل وضعف في الخدمات، وارتفاع في تكلفة الحياة بسبب النقل. لكنهم مع ذلك يتباهون ببطاقة مجانية في النقل « بلودهم «. وهي البطاقة التي تشكل في ذهن القرقني جواز سفر يرمز إلى الأصل. وكل من يحملها هو « وخي « أي قرقني أصيل .. « القراقنة « الذين خبروا البحر وتمرسوا عليه، تعلموا منه الأنفة والكبرياء وروح العطاء بلا مقابل.لكن هدير البحر لا يستأمن. والتاريخ قال هذا. وأضاف متسائلا : إلى متى ستبقى قرقنة تواجه الطبيعة وتقلباتها دون تطوير طرق النقل التي شهدت قفزة نوعية في العالم. لكن مع قرقنة، يبقى «اللود» وسيلة النقل الوحيدة التي تخلق وتفك العزلة من حين الى حين.