أوصى الإسلام بالجار وأعلى مِن قدره، فللجار في ديننا حرمةٌ مصونة، وحقوق مرعيَّة، حيث قرن المولى - سبحانه وتعالى - الإحسانَ إلى الجار بعبادته وتوحيده؛ فقال - عز من قائل -: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ﴾ [النساء: 36]. هذه وصيةُ الله عز وجل في كتابه، أما وصية رسوله - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءت في صورة جليلة، وتعبيرٍ مستفيض، يجلي مكانة وحق الجار في الإسلام، أخرج الإمام أحمد في "مسنده" عن رجل من الأنصار، قال: خرجتُ مع أهلي أريد النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذ به قائم، وإذا رجل مقبِل عليه، فظننتُ أن له حاجة، فجلست، فوالله لقد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جعلت أرثي له من طول القيام، ثم انصرف، فقمت إليه، فقلت: يا رسول الله، لقد قام بك هذا الرجل، حتى جعلت أرثي لك من طول القيام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أتدري من هذا؟)، قلت: لا، قال - صلى الله عليه وسلم -: (جبريل، ما زال يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورِّثه). فالجار هو مَن جاورك في دارك، سواء أكان مسلمًا أم كافرًا، بَرًّا أم فاجرًا، صديقًا أم عدوًّا، محسنًا أم مسيئًا، قريبًا أم بعيدًا، وليس للجار ضابط من عدد أو غيره، والمرجع في ذلك إلى عرف الناس، فكل من عدَّه الناس جارًا لك، فهو جار تجب له حقوق الجوار. إن حقوق الجار كثيرة ومتعددة، وهي دائرة على ثلاثة حقوق كبرى: أحدها: كف الأذى عن الجار، والثاني: الإحسان إليه، والثالث: الصبر على الأذى منه؛ فأما الإحسان إلى الجار، فهو من أفضل الأعمال والقُربات، كيف لا وهو سبب من أسباب نيل محبة الله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم؟! يقول نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -: (إن أحببتم أن يحبكم الله ورسوله، فأدُّوا إذا ائتُمنتم، واصدقوا إذا حدَّثتم، وأحسنوا جوار من جاوركم). وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: (ما من عبد مسلم يموت، فيشهد له ثلاثةُ أبياتٍ من جيرانه الأدنين بخير، إلا قال الله - عز وجل -: قد قبلتُ شهادة عبادي على ما علموا، وغفرتُ له ما أعلم). والإحسان إلى الجيران يشمل كافة وجوه الإحسان، ولو كان شيئًا يسيرًا أو حقيرًا؛ لما له من أثر في تقريب النفوس وإزالة الأحقاد؛ جاء في الصحيحين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا نساء المسلمات، لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها ولو فِرْسِنَ شاة)، وفرسن الشاة هو حافرها، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: أي: لا تحقرن أن تهدي إلى جارتها شيئًا، ولو أنها تهدي ما لا يُنتفع به في الغالب، ويقول أبو ذر - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يا أبا ذر، إذا طبختَ مرقة، فأكثِرْ ماءها، وتعاهَدْ جيرانَك)؛ رواه مسلم. فكان أبو ذر - رضي الله عنه - إذا طبخ لحمًا، أكثَرَ ماءه وأهدى إلى جيرانه، وقال: إن خليلي - صلى الله عليه وسلم - أوصاني: (إذا طبختَ مرقًا فأكثِرْ ماءه، ثم انظر أهلَ بيتٍ من جيرانك، فأصِبْهم منها بمعروف)، ويقول مجاهد: "كنتُ عند عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وغلام له يسلخ شاة، فقال يا غلام: إذا سلختَ فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مرارًا، فقال له: كم تقول هذا؟ فقال: إن رسول الله - صلى الله علية وسلم - لم يزل يوصينا بالجار، حتى ظننا أنه سيورثه"؛ رواه أبو داود والترمذي. الخطبة الثانية إن الناظر في واقع الناس اليوم يرى كيف أن الدنيا قد ألقتْ بظلالها على حياتهم، فعصفتْ بكثير من الأخلاق والقيم، وأنْستْ كثيرًا من الحقوق والمُثُل، فتباعدَتِ القلوب، وتنافرت النفوس، حتى رأينا مَن عقَّ أباه، وقطع أخاه، وهجر جاره، ورأينا كذلك جارين في حي واحد؛ بل في بناية واحدة، يتجاوران سنوات عديدة، لا يدخل أحدهم منزل جاره، ولا يتفقَّد أحواله خلال هذه المدة، وقد يسافر الجار، أو يمرض، أو يحزن، أو يفرح، وجارُه لم يشعر بذلك، ولم يشاركه في أفراحه وأتراحه؛ بل قد ترى الشِّقاقَ والنزاع محتدمًا بين الجيران، والعداءَ ظاهرًا بينهم بالقول أو الفعل، فضُيِّعت – وللأسف - الحقوق، وقام بين الناس سوق القطيعة والعقوق، إلا من رحم الله – تعالى - ولا بد لتدارك ذلك من وقفةٍ نراجع فيها أنفسنا، ونصحح فيها أحوالنا، ونعمل من خلالها على تلمُّس حاجات جيراننا، والإحسان إليهم، وكف الأذى عنهم. إن جملة ما يحق لجار المسلم عليه أن يسلِّم عليه إذا لقيته، وإن مرض عاده، وإن مات شيَّعه، وإذا استقرضه أقرضه، وإذا افتقر اعانه، وإذا أصابه خير هنَّأه، وإذا أصابته مصيبة عزاه، ولا يستطيل عليه بالبنيان فيحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا يؤذه برائحة قِدره؛ إلا أن يغرف له منها، وإن اشترى فاكهة، يهدي له، فإن لم يفعل، فليدخلها سرًّا، ولا يخرج بها ولدُه؛ ليغيظ بها ولدَه. وجماعُ حقوق الجار على جاره: قولُه - صلى الله عليه وسلم -: (لا يؤمن عبدٌ حتى يحب لجاره - أو قال: لأخيه - ما يحب لنفسه)؛ رواه مسلم. فاتقوا الله، عباد الله، وأحسنوا إلى جيرانكم، يُحسِنِ اللهُ إليكم، واصبروا على هفوات الجار، يتجاوَزِ الله عن هفواتكم.