خلال هذه السنوات العشر العجاف سنكون قد رأينا كل شيء في مجال التغوّل على الدولة والتنافس على العبث بهيبتها وتمريغها تحت الأرجل: * جمع من المواطنين يشيدون حائطا فوق سكة القطار لمنعه من المرور محملا بالفسفاط. وطالما أني لا أعمل فليتوقف الانتاج ولتذهب الثروة الوطنية إلى الجحيم. * جمع من العمّال يوقفون العمل للمطالبة بزيادات أو منح أو بتحسين ظروف العمل. وبقطع النظر عن مدى وجاهة ومشروعية هذه المطالب ليذهب العمل إلى الجحيم ولتغرق المؤسسات الاقتصادية في وحل العجز والمديونية. * جمع من المواطنين يغلقون الطريق السيارة للمطالبة بالماء.. ودون الخوض في مشروعية الطلب، لتذهب مصالح الناس من مواعيد سفر ومن نقل مرضى وتزويد بمواد أساسية إلى الجحيم. فالماء حق مقدس تتوقف دونه كل مناحي الحياة. وجمع آخر يغلق مواقع إنتاج البترول للمطالبة بالتشغيل والتنمية. ورغم وجاهة المطالب فإن الطريقة تطرح الكثير من الأسئلة. * تكبر دائرة الاستهتار وتتوسّع ويتسرّب جنون التغوّل إلى المجالس البلدية وإلى المعتمديات. لنجد رئيس مجلس بلدي «موقر» يحتجّ على تحوّل رئيس الدولة إلى مسجد يقع في المجال الترابي لبلديته لأداء الصلاة.. وذلك بحجة أن رئيس الدولة لم يكلّف نفسه عناء «التنسيق» مع «معالي» رئيس البلدية أو الاستئذان منه للتحرّك داخل الحرمة الترابية للدولة التي يرأسها. * نائب «محترم جدا» يملك من الجرأة والشجاعة ومن الرجولة ما يسمح له بتوزيع ما لذّ من الشتائم والاهانات على زميلته بقطع النظر عن موقع كل واحد منهما وعن خلفيات الصراع بين الطرفين.. كل ذلك تحت قبّة البرلمان وأمام أنظار ملايين التونسيين الذين سوف لن يجد الكثير منهم حرجا في تكرار المشهد داخل إدارة أو في فضاء عام طالما أن النواب المحترمين يتعاملون بهذه البضاعة الهابطة جدا. * ولتكتمل دائرة ترذيل الدولة وتلطيخ هيبتها في التراب، يطلع وزير الثقافة المقال وقد أخذه الحماس في لحظة «ثورية» ضد قرار لم يستسغه لا هو ولا أهل الثقافة والفن وهذا أمر معقول ويناقش ليقول بأن وزارته ليست وزارة لتنفيذ بلاغات رئيس الحكومة. وكأنّما كانت الحكومة عبارة عن اقطاعيات يستقل فيها كل وزير باقطاعيته.. وكأنما كان التضامن الحكومي مجرد شعار يركن في الرفوف.. وكما لو أن روح الفريق التي يفترض أن تسود داخل الفريق الوزاري عبارة عن كلمات جوفاء تطلق جزافا ولا تستوجب حدا أدنى من الانضباط والتحفظ.. نسي صاحبنا أيضا أن هيبة الدولة مفهوم مقدس وجب صون علويته والسعي إلى تكريسه وتعزيزه بقطع النظر عن المواقف الذاتية واللحظات الانفعالية. فأين نحن ذاهبون بهيبة الدولة وبعلوية مؤسساتها وقوانينها ونواميسها إذا كنّا جمعيا من أسفل الهرم إلى أعلاه نتبارى في العبث بها وبتمريغها في تراب الأهواء والمصالح والانتماءات السياسية والنزعات أو النزوات الشخصية... ولقد كان مطلوبا للتحرّك لوقف هذا النزيف.. لأن إنقاذ البلاد والعباد يمرّ عبر إنقاذ الدولة وعبر إنقاذ هيبة الدولة وعبر ردّ الاعتبار لعلوية القانون والمؤسسات.. ولعلّ التحرّك السريع لرئيس الحكومة الذي بادر إلى إعفاء «الوزير المتمرّد» والمتعفف بطبعه قبل أن يعيده رئيس الجمهورية يرسل إشارة إيجابية في الاتجاه الصحيح. اتجاه نصرة هيبة الدولة ورد اعتبارها.. وهي إشارة لا نريدها أن تبقى يتيمة ولا رهينة ظرف أو حسابات سياسية، بل نريدها أن تكون سياسة منهجية يرفدها قرار سياسي صارم وقبضة قوية بجعل الجميع ينضبطون إلى علوية القانون والمؤسسات.. وإشارة تعيد لهيبة الدولة كامل أبعادها ومضامينها.. ذلك ان الفوضى وازدراء هيبة الدولة وقوانينها ومؤسساتها مؤذنة كلّها بالخراب. وسوف لن يستقيم أي بُنيان يقام على هذه الآفات التي لا تحمل في طياتها غير الدمار الشامل.. ولنواجه أنفسنا ولنحاول الإجابة عن سؤال المصير: هل نريد إنقاذ الدولة أم خرابها؟ عبد الحميد الرياحي