- في لحظة من لحظات التجلي التاريخي صرخت الحناجر بعبارة مدوّية عمّت أرجاء المعمورة: الشعب يريد إسقاط النظام لأنه أراق دماء زكية، ونشر ثقافة الفساد ونهب المال العام والخاص، ولم يحقق الحد الضروري من التنمية العادلة بين أرجاء الوطن الواحد، واعتمد الإرهاب الرسمي أسلوبا وحيدا للحوار مع الخصوم ومن يتجاسر على مخالفة رأي السلطان. ورحل رأس النظام غير مأسوف عليه، واعتقدنا أن أبواب الأمل في غد أفضل من الأمس قد انفتحت على مصراعيها، وأن هذا الشعب الذي بُحّت أصواته بمقولة «خبز وماء وبن علي لا» سيتكاتف كالبنيان المرصوص لتتعايش فئاته في وئام ومحبة على اختلاف المشارب والأهواء، وسيشمّر عن سواعد الكد والجد من أجل تعويض ما فات وإعادة البناء، مع ما يلزم من الصبر على المطالب وما يستوجبه مستقبل الأجيال من تضحيات تهون أمام تضحيات الشهداء. وسرعان ما دخلت على الخط جحافل أدعياء الحرية، وفرسان الثورية، ومن يعتقدون أنهم أوصياء على الشعب، ومن يعتبرون أنفسهم من النخبة السياسية والثقافية والفكرية، فاختلط الحابل بالنابل وبدت الثورة كأنها في مهب رياح متضاربة الاتجاهات تتقاذفها التيارات والشعارات المتناقضة التي زاد من حدتها عدم وضوح الرؤية إلى حقيقة أهداف الثورة وغياب توافق صريح عليها يجمع ولا يفرّق. وشيئا فشيئا صار لعبارة «الشعب يريد» ألف معنى ومعنى بما يتيح للجميع، بما في ذلك عشاق الفوضى ومحترفو الإجرام المنظم والمتاجرون بمشاعر الحرمان وأحلام الكادحين، رفع هذا الشعار من أجل تحقيق مكاسب ذاتية أو فئوية أو سياسية أبعد ما تكون عن هموم عامة الناس. وهكذا صارت البلاد شيئا فشيئا غنيمة يريد كل طرف أن يفوز بنصيبه منها قبل فوات الأوان فلا يظفر بشيء، وصارت عبارة «إسقاط النظام» مرادفة لإسقاط الدولة وإنكار حرمة القانون وتغليب النفع الذاتي على الصالح العام، لأننا في أعماق أنفسنا لا نؤمن بوجود دولة تجمعنا وإنما نعتبرها عدوّا لنا مثلما يتجلى من عقلية «البيليك» التي تربينا عليها في تعاملنا مع كل ما هو ملك عمومي. والمؤلم حقا أن الماسكين بالسلطة بعد الثورة ساهموا بوعي أو دون وعي منهم في ترسيخ فكرة الغنيمة، أو لم يفعلوا ما يلزم للتصدي إليها، سواء بسرعة الاستجابة لبعض المطالب الاجتماعية والفئوية، أو بمواصلة الانتفاع بالامتيازات المادية والعينية الممنوحة لرموز الدولة بحجة أنها مجرد تطبيق لنصوص موجودة من قبل، وهي حجة مرفوضة في منطق الثورة وفي نظر الفئات المحرومة التي نطالبها بمزيد الصبر والتضحية، فالمواطن الذي لا يكاد يوفر قوت عياله، أو ليس له في مسكنه البدائي أدنى مقوّمات الكرامة، أو لا يستطيع مواجهة نفقات تعليم أبنائه أو الرعاية الصحية لأسرته، لا يجوز أن ننتظر منه الترحيب بالدعوة إلى مزيد الصبر والتضحية حين يرى رمزا من رموز السلطة يمتطي سيارة فاخرة أو يسمع ما يشاع عن مستوى الرواتب والمنح والامتيازات المسندة لمن وصلوا إلى سدّة الحكم بفضل الثورة وتضحيات شهدائها وجرحاها. ودون أدنى تبرير للأنانيات الفردية والفئوية وما يتولد عنها من مطالب مفرطة وتعجيزية، فإن عقلية الغنيمة هي وجه من وجوه انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم، وكان من المفروض مباشرة بعد الثورة أن تصدر ولو بصورة استثنائية ولهذه المرحلة الانتقالية مبادرات جريئة تبهر الأنظار، وتسترعي العقول، وتساعد على مدّ جسور التواصل بين السلطة والشعب، وتوفر القدر الضروري من مصداقية الخطاب السياسي بما يجعله مقبولا لدى شرائح واسعة إن لم نقل لدى السواد الأعظم من الناس. وتتمثل هذه المبادرات الجريئة في إعطاء المثل للشعب الكريم في التضحية والتقشف بداية من رئيس الدولة إلى أعضاء الحكومة وأعضاء المجلس الوطني التأسيسي وطوابير المستشارين، وذلك على سبيل المثال بالاقتصار على عدد محدود من الوزراء والمستشارين، وإلزامية التصريح بالمكاسب قبل وعند انتهاء التكليف، والمراجعة الجذرية للرواتب والمنح والامتيازات بدلا من الرفع فيها أو حتى مجرّد الإبقاء عليها بدعوى أنها موروثة عن الماضي. وفي غياب المبادرات الكافية لتأمين مصداقية الخطاب السياسي وضرب المثل في التقشف والتضحية، يمكن أن نفهم إلى حد ما بعض الانحرافات التي أصابت عبارة «الشعب يريد». إذن ماذا يريد الشعب؟ الشعب يريد مجلسا تأسيسيا يكتب لنا دستورا جديدا انطلاقا من الصفر وكأننا نسينا أن تاريخ تونس مع الدساتير يعود إلى العهد القرطاجني، وأنها كانت أول دولة عربية تتبنى دستورا عبر عهد الأمان، ولنا رصيد هائل في مجال التجربة الدستورية بما في ذلك دستور 1959 في صيغته الأصلية قبل ن تلوّثه أهواء السياسة والحكم المطلق، وكان من الميسور تحديثه وتخليصه من الشوائب لننتقل بسرعة إلى انتخابات رئاسية وتشريعية تمنح للبلاد مؤسسات دائمة وتعفينا من عبث الاستهزاء بأصحاب السلطة عبر نعتهم بالوقتيين. ولا شيء يمنع في ما بعد من دعوة مجلس تأسيسي لوضع دستور جديد يستغرق إعداده بالضرورة وقتا أطول مما يعتقد المراهقون السياسيون الذين يتساءلون اليوم لماذا أبطأ المجلس الوطني التأسيسي في صياغة الدستور المرتقب. الشعب يريد تحقيق التنمية الشاملة في كل الجهات والقضاء على الفوارق الجهوية فورا ودون إبطاء، وإذا تأخرت هذه المعجزة عاما واحدا فالويل للدولة ورموزها وممتلكاتها العامة التي ينصب عليها وابل الغضب نهبا وحرقا من منطلق أنها ملك «بيليك»، وننسى أو يريد دُعاة التهييج والإثارة أن ننسى أن المولى وحده سبحانه وتعالى قادر على أن يقول للشيء كن فيكون. الشعب يريد التشغيل الكامل للعاطلين عن العمل، أو المعطلين عن العمل حسب المصطلح المبتدع في شأنهم، وتعميم منحة الكسل في انتظار الظفر بوظيفة قارة ومريحة وبراتب يحقق بسرعة مطلب العيش السعيد لأن من تحصّل على شهادة عليا أو شبه شهادة لا تسمح له كرامته بقبول أي عمل وقتي في انتظار التوظيف المستقر، فضلا عن مطالبه بالمشاركة في جمع الزيتون أو أي محصول زراعي آخر أو القيام بغير ذلك من الأعمال التي صرنا نجلب لها العمالة الإفريقية. الشعب يريد عزل وطرد هذا الوالي أو غيره من سامي موظفي الدولة لأنه لم ينبطح أمام بعض المطالب المجحفة، أو لم يركع أمام زعامة من الزعامات النقابية المحلية، أو لأن ركب التنمية الميمونة والتشغيل الفوري تأخر عاما أو عامين. ولم تعد لرموز الدولة من قمة الهرم إلى أدناه أية هيبة أو مجرد احترام، حتى صار كبار الموظفين في الإدارة التونسية يرفضون مناصب المسؤولية خاصة في الجهات الداخلية لأن هيبتهم من هيبة الدولة ولا مجال لتحمّل أمانة المسؤولية في غياب الدولة وهيبتها. ولا بد من الإشارة هنا إلى حادثة وقعت يوم غرة جوان 1982 بمناسبة ذكرى «عيد النصر» حيث امتنع رئيس المجلس البلدي ومساعدوه عن الذهاب لتهنئة الوالي في احدى الجهات الداخلية، فكانت النتيجة إقالتهم بقرار حكومي رغم صفتهم الانتخابية لأن تصرفهم بدوافع شخصية في مناسبة وطنية اعتبر مساسا بهيبة الدولة طالما أن الوالي هو الممثل الشخصي لرئيس الدولة. الشعب يريد حرية التعبير والممارسة السياسية وغيرها من الحريات العامة التي طالما تشوّقنا إليها في زمن ألغت فيه الفضائيات كل المسافات وولّدت لدينا شعورا بالغبن لما نشاهد ما تنعم به شعوب أخرى من عزة وكرامة والحال أنها دوننا عراقة في الحضارة. ولما جاءت الحرية المعشوقة على طبق من ذهب أساءت أطراف عديدة لهذه الحرية في كفر عجيب بالنعمة الوافدة علينا، فانفلتت بعض وسائل الإعلام أو أغلبها وانخرطت في لعبة الولاءات السياسية، وتهويل الوقائع، ونشر الإشاعات، وهتك الأعراض، وإثارة المشاعر والنعرات، وتشويه صورة تونس في الخارج. وتحولت منابر الحوار في الإذاعات والتلفزيون الى حلبات للقذف والشتائم والصراع العقيم. بل عمدت بعض المنوعات التلفزيونية الى ألوان من التهريج وصل الى حد السخرية المهينة لكبار رجال الدولة، ليقفز الى الأذهان سؤال محير حول مدى الاحترام الذي يمكن أن يحلم به أي رمز من رموز الدولة في أية حكومة قادمة. الشعب يريد محاسبة من أجرموا في حقه بالقتل أو التعذيب أو قطع الأرزاق أو نهب الثروات على حساب المحرومين من أبسط حقوق المواطنة، وهي محاسبة لا مفر منها على الأقل لمعرفة حقيقة ما حصل من تجاوزات فعلية ومظالم مؤكدة ولو من مطلع الاستقلال الى لحظة الثورة. ومن حق كل مظلوم إعادة الاعتبار له عما لحقه من أذى مادي ومعنوي، وقد يساعده ذلك على التحلي برفعة النفس فيتنازل عن حقه في التعويض المادي وعن المطالبة بالقصاص والتشفي وهو أبعد ما يكون عن أخلاق الإسلام. وللأسف الشديد دخلت الحسابات السياسية على الخط، وتهافت المتاجرون بآلام المظلومين، وتعالى صراخ أدعياء حقوق الإنسان، وتعاظم الضغط العقيم على جهاز قضائي محدود الامكانات المادية والبشرية وهو غير قادر على الفصل بالسرعة المطلوبة في الآلاف والآلاف من القضاي الشائكة دون الوقوع في مخاطر ارتكاب مظالم أخرى. فإما ان نطوي صفحة الماضي على ما فيه من آلام وجروح مأساوية، أو أن نسمح للعدالة الانتقالية بأن تأخذ مجراها دون التسرع وبعيدا عن مختلف أشكال الضغط بما في ذلك ضغط الشارع حتى لا تتحول العدالة الى محاكمات شعبية هي أبشع من كل المظالم. الشعب يريد حرية الاعتصام وقطع الطرقات وغيرها من شبكات الاتصال ومنع المؤسسات من العمل لأنها ترفض التشغيل وزيادة الأجور فوق طاقتها، أو لغير ذلك من الأسباب التي يرى فيها دائما اعلامنا المنفلت مطالب مشروعة. ولا يحق بطبيعة الحال أن يتدخل الأمن للحيلولة دون قطع الأرزاق، والويل كل الويل له لو تجاسر على إرادة الشعب واستعمل وسائل الردع القانوني، وحتى إذا تعرض الى وابل من الحجارة وغيرها من المقذوفات الشعبية فما على جهاز الامن إلا أن ينسحب من الساحة بسلام دون ان تسلم مع ذلك مراكزه ووسائل عمله من اعمال النهب والحرق. الشعب يريد صلاة الجنازة على القانون، كل القوانين، لأنها تحد من حريتنا في البناء الفوضوي واحتلال مساكن الغير والاستيلاء على الأرصفة والعقارات العامة والخاصة. ولا تنسوا حريتنا في تجاهل أبسط قواعد المرور، وليست نهاية العالم إذا قفزت احصائيات حوادث الطرقات الى مستويات غير مسبوقة لتحصد من أرواح البشرية في سنة واحدة أضعاف ما تسببت فيه الثورة، بالإضافة الى اعداد الجرحى والمعاقين وأنهار الدموع الحزينة الناتجة عن تلك الحوادث. الشعب يريد حرية تهريب البضائع العادية وغير العادية بما في ذلك المحروقات المغشوشة والمواد الاستهلاكية المدعمة وحتى المخدرات التي تغري الشباب بنشوة خادعة نهايتها خراب العقل وزوال نعمة الصحة والحال أن الشباب هو الركيزة الأساسية لبناء المستقبل. وطالما أن النفع السريع غاية تبرر الوسيلة، فلا حرج في أن ينهار الاقتصاد، وتفلس مؤسسات قائمة، وينتشر الكساد في سوق التجارة المنظمة، وأن نفتقد هذه البضاعة الاستهلاكية أو تلك بسبب التهريب، وأن تلتهب الأسعار بما ينال من الفقير قبل الغني. ولو تطاول حماة الحدود ورجال الجمارك وأعوان المراقبة الاقتصادية وحاولوا الاضطلاع ببعض مسؤولياتهم لنالهم نصيبهم من التأديب. الشعب يريد... الشعب يريد.. تطول القائمة، وإزاء بعض التجاوزات والانحرافات الخطيرة، قد يتبادر في الأذهان أن الشعب الذي تربى طيلة نصف قرن أو أكثر على عصا القمع ثم حرم منها فجأة وبدون مقدمات يريد عودة العصا وكأنه في شوق إليها ولا يستطيع الفطام منها. ولكن الزمان غير الزمان، وحتى العصا أصبحت مطلبا صعب المنال بعد سقوط حاجز الخوف، وبعد أن ساد الاعتقاد بأن الحرية مرادفة للفوضى، هذه الفوضى التي تكرمت علينا دولة عظمى بأن وصفتها فوضى خلاقة... إذن، يبقى الأمل الأخير في الصبر المرير على هذه المرحلة الانتقالية، عسى أن يمل الجميع من حالة الانفلات الجماعي لنبني وعيا جماعيا جديدا تستقيم معه الحياة لكل التونسيين والتونسيات رغم اختلافتنا التي ينبغي أن تكون عامل إثراء وليس سببا للفرقة والتناحر. اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين. * )إطار متقاعد(