ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    يوميات المقاومة...تخوض اشتباكات ضارية بعد 200 يوم من الحرب ..المقاومة تواصل التصدي    أخبار الترجي الرياضي ...مخاوف من التحكيم وحذر من الانذارات    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    انتخابات جامعة كرة القدم .. قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    تعزيز الشراكة مع النرويج    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    أعضاء لجنة الأمن والدفاع يقررون أداء زيارة ميدانية إلى جبنيانة والعامرة    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    فاطمة المسدي: ''هناك مخطط ..وتجار يتمعشوا من الإتجار في أفارقة جنوب الصحراء''    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    قرار قضائي بتجميد أموال شركة بيكيه لهذا السبب    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    عاجل/ تعطل الدروس بالمدرسة الإعدادية ابن شرف حامة الجريد بعد وفاة تلميذ..    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    تحول جذري في حياة أثقل رجل في العالم    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    رئيس مولدية بوسالم ل"وات": سندافع عن لقبنا الافريقي رغم صعوبة المهمة    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شهادة تاريخية صادمة لمدبّر عملية باب سويقة: كنت جاسوس النهضة داخل حزب التجمع
نشر في الشروق يوم 14 - 03 - 2021

بعد صمت طويل نشر كريم عبد السلام، مدبّر عمليّة باب سويقة سنة 1991، شهادة تاريخية استعرض خلالها تفاصيل العملية. تفاصيل وثّقتها ذاكرة كهل يبحث عن عدالة حقيقية تنصف ما اسماه ب"جيل المحرقة"، من اطفال وشباب كان من بينهم، من دفعوا ثمن مغامرات قيادة النهضة التي "قامرت باندفاع وحماسة شباب اعتقدوا فيها".
هذه الشهادة التاريخية وردت قبل سنة في نص مطوّل بقلم كريم عبد السلام او "المتهم عبد الكريم" كما دُوّن إسمه في ملفات هذه القضيّة تفوح منه اسئلة حول مفهوم العدالة الانتقالية. وهو الذي برّر تدوينه لشهادته بانه "يجد صعوبة في تصنيف ذاته في من يصطلح على تسميته "جلاّد" وينظر له كعنوان للماضي ومن يصنفون كضحايا ويدعى للعمل على إنصافهم" ولكنه "وجد نفسه هنا وهناك".
شهادة أراد كشفها للراي العام بحثا عن "عدالة انتقالية بتقسيمات مغايرة" يظنّها "اكثر وفاء للواقع. عدالة تفرض على الجميع الجلوس على الطاولة طلبا للحقيقة وحماية لحق المجتمع في حقيقة كاملة".
يقول كريم عبد السلام للشروق اون لاين إن "الحقيقة كاملة او لا تكون" واضاف ان "العدالة الانتقالية تفترض قول الحقيقة كما هي والتصالح مع الماضي باعتراف كامل بالحقيقة وليس جزء منها فقط". واوضح ان كتابته لشهادته تاتي في اطار تصحيح مسار العدالة الانتقالية وان تكون هذه العدالة كشفا للحقيقة كاملة.
نشأته
إسمه كريم عبد السلام وهو من مواليد 1973 كان في العام 1991 العقل المدبّر لعمليتيْ حرق الشعبة الترابية لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي وحرق مقر لجنة تنسيق الحزب-تونس المدينة في باب سويقة. العملية الاولى نُفّذت في 16 جانفي 1991 والثاني نُفّذت بعد شهر واحد.
وُلِد كريم في حي الحفصيّة بالعاصمة وقد فقد والده في سن السابعة حيث واجه واسرته ظلما من عشيقة والده التي كانت تعيش بينهم ثم قررت اخراجهم من المنزل بعد وفاة والده. ورغم كل الوثائق القانونية لم تساعد منطقة الامن الاسرة على استرجاع حقها في المنزل. ومن هنا كانت نقمة كريم الطفل على حامل الزي الامني.
لاحقا كان المسجد الملاذ الآمن لكريم المسكون بالعنف والذي كان يحرس اخوته في تنقلهم للمدرسة بسلاح رشاش ماء مملوء بماء النار خوفا من تهديدات عشيقة والده.
قال إنّه احتمى بالعقيدة في مواجهة محيط كان يدفعه دفعا نحو الانحراف وكان المسجد ملاذه وحيث كان الصيد الثمين لشيوخ محسوبين على الاتجاه الاسلامي فتم استقطابه للانتماء للتنظيم.
وفي العام 1987 وحين كان طفلا لا يتجاوز عمره 14 سنة كان كريم الطفل الوحيد الذي يتم اعلامه مسبقا من قبل قيادة الحركة بموعد التظاهرات ليساعد لاحقا على تهريب المشاركين عبر ازقة المدينة للتخلص من الملاحقة الامنية.
اختراق التجمّع
اثر الانتخابات التشريعية لسنة 1989 اعتبر كريم نفسه من ضحايا صدمة "التدليس الواسع الذي مارسه انصار الحزب الحاكم والادارة الذي فرض سقوط مرشحي النهضة في الانتخابات". صدمة دفعته ضعفا منه بامكانية التغيير السياسي السلمي الى الابتعاد عن النهضة ليقترب من الجبهة التونسية للانقاذ وهي مجموعات تتبنى الفكر السلفي الجهادي.
ومن دوافع الاقتراب من هذه الجماعات المتشددة انه كان "تلميذا لدى منظرهم العقائدي في تلاوة القرآن وتلميذا في رياضة فنون القتال لدى مؤسس ذراعهم العسكرية". وبعد شهر فقط استعادته النهضة بعد تنبيهه بضرورة الحذر "من خطوات غير مدروسة قد تفسد نجاحات قريبة".
كانت النهضة تتوقع المواجهة مع النظام وبدأت الاستعداد لها فقررت سنة 1990 الحاق كريم بدائرة الاستعلامات-الجهاز الخاص. وطلب منه الجهاز الخاص الالتحاق بحزب التجمع "لأكون عين الحركة داخله".
كانت وجهة كريمة شباب التجمع في فرعه التابع للجنة التنسيق الحزبي بتونس المدينة-باب سويقة وقد سبق ذلك التخفيف المدروس من مظاهر تدينه والتسويق له داخل الحزب. "كنت ادرس في الرابعة تقنية بالمعهد الثانوي 9 افريل وانشط كتجمعي في الشبيبة المدرسية وطلبت القيادة من الاخوة استهدافي صوريا على خلفية هذا النشاط. واذكر يوم نظّم زبيّر الشهودي الذي كان يدرس معي ومطلع تماما على الدور الذي العبه محاكمة لي في ساحة المعهد انتهت بالاعتداء علي وهو الامر الذي رفع مكانتي في التجمع".
نشاط الجهاز الخاص
قال كريم عبد السلام في شهادته ان الحركة كانت تعوّل في عملها الاستعلامي بشكل اساسي على سياسة الاستقطاب لكوادر الدولة الامنية والعسكرية ولاحقا مع تطور تنظيمها وحاجتها مرّت الى اختراق المؤسسات التي تحتاج الى معلومات منها بما في ذلك منظمات وجمعيات.
ويعترف عبد السلام بان عملية اختراق الحزب الحاكم نجحت لدرجة تقلّد من كلّفوا بالاختراق مواقع قياديّة في الحزب من قبيل عضوية اللجنة المركزيّة وعضويّة المكتب الوطني للمنظمة الطلابيّة ومنظمة الشباب.
كما وجد عبد السلام نفسه عضوا في سياق ما يشبه التنظيم السرّي (طلائع فداء العلم بالدم) الذي كان يشرف عليه دساترة من جيل الاستقلال من ابرزهم عزوز الرباعي فشارك في دورات مكثفة هدفها استعادة الحزب من اليساريين.
في بداية 1991 قررت حركة النهضة تفكيك كل هياكلها الظاهرة العلنية والتعويل على تنظيم خاص غير مكشوف للاجهزة الامنية والحزبية. تكوّن هذا التنظيم من مجموعات صغيرة تشكّلت كل واحدة منها من عدد لا يتجاوز 5 افراد وفقا لاختيار مدروس على حد قول عبد السلام. وتتواصل هذه الخلايا مع القيادة من خلال عنصر الاتصال فقط.
تحرير المبادرة
انهكت الاعتقالات النهضة ومن مؤشرات ضعفها بالنسبة لكريم عبد السلام انه تم الاتصال به من "عامل المدينة" لمطالبته بالمساعدة في "تدريب الاخوة على فنون القتال والمواجهة". وقد كان الطلب غير مستساغ بالنسبة اليه نظرا لموقعه داخل التجمّع ولكن تم تبرير ذلك بالحاجة الملحة وبكون من سيدربهم من خارج منطقة المدينة ولن يتعرفوا على هويته.
"آل أمري الى القبول فقمت بتدريب ابناء الحركة ليلا على المواجهة وصباحا أجالس قيادات الجهة التجمعية للحديث عن خطر "الخوانجيّة" ومتابعة رصد ميليشيات الحزب لهم".
ومع توالي الاعتقالات في 1991 تم اعلان الخطة الاستثنائية للحركة "تحرير المبادرة" أي السماح للخلايا باقتراح مشاريع عمليات نوعية وتنفيذها بعد تحصيل موافقة القيادة. وقد سمح موقعه بالتخطيط للعمليات والمشاركة في تنفيذها.
عند هذا الحد، يقول كريم عبد السلام، "كنت ضحية بعدما استغلّت السياسة طفولتي البائسة التي كان سبق لظلم السلطة والمجتمع ان شوّه معالمها. كنت ضحيّة لمجتمعي وضحية لمفهوم السياسة في بلدي".
تواترت الاحداث لاحقا وعلى مستوى المواجهة المكشوفة وجهت حركة النهضة المشاركين في التظاهرات الى استهداف وسائل نقل الامن ومقراتهم بالزجاجات الحارقة واقتحام المقرات وحرقها. رافق ذلك حملة تعبوية استمرت لاربعة اشهر تم خلالها الكتابة على الجدران والتعبئة في حلقات النقاش والدروس في المساجد. وهو مناخ مهّد لاطلاق "تحرير المبادرة" فطلب كل "عامل" من الخلايا التابعة له تقديم مقترحات لعمليات نوعية محتملة و "لم تكن هناك أي ضوابط معلنة لمفهوم العمليات النوعية". لاحقا اعطت القيادة الضوء الاخضر لعدد من المشاريع وهنا تواترت اخبار استهداف مقرات حزبية ولاشخاص يُصنفون ك"صبّابة".
حرق مقر شعبة الاسواق
كنت في هذا السياق المشحون عاطفيا، يشرح كريم عبد السلام ذو ال17 ربيعا آنذاك، قد تقدمت بمقترحين. يتمثل الاول في استهداف الشعبة الترابية للتجمع بالاسواق "نظرا للاهمية الرمزية لهذه الشعبة إذ هي من أوائل الشعب التي أسسها الحزب وتضم كبار التجّار وتداول على رئاستها كبار الوزراء واستهدافها دليل قوة للحركة".
وتمثّل الثاني في استهداف لجنة التنسيق بباب سويقة "نظرا لرمزيتها التاريخية إذ هي مركز قوة وارتكاز للحزب الحاكم فهي تضم في تركيبة مجلسها عددا هاما من الوزراء. وهي اهم مكون جهوي للحزب بحيث ترجع له بالنظر "الجامعات المهنية" لمختلف الوزارات وهي جامعات تضاهي في امتدادها اتحاد الشغل. كما يضم المقر ارشيف الحزب الحاكم حيث كان يحلو لي المكوث للمطالعة والفهم والاكتشاف".
تلى تقديم المقترحات فترة انتظار وردت بعدها تعليمات مقتضبة من قيادة النهضة نصها "تنفيذ مقترح الشعبة". وهو ما تم فعلا يوم 16 جانفي 1991 حيث تسللت مجموعة تتكون من اربعة عناصر من بينهم كريم عبد السلام الى المقر عبر منافذه الجانبية بعد غلق الباب من الخارج وفتشوا المقر وحملوا الاختام "لعلها تصلح عند الحاجة" ثم احرقوا المقر وانسحبوا.
في صباح اليوم التالي لاحظ كريم حالة الارتباك في مقر لجنة التنسيق "فقيادات الحزب كانوا كلهم حاضرين ويتحدثون عن كومندوس نفذ العملية. كان هناك خوف كبير في صقور الحزب ويتوقعون الأسوأ" وكانت نشوة كريم بنجاح عملية تحمّس لها واعدّ خطتها وشارك في تنفيذها. وجاء لاحقا الثناء من القيادة واعطاءه الضوء الاخضر لتنفيذ مشروع باب سويقة.
عملية باب سويقة
كان هناك طرحان لتنفيذ العملية. الطرح الاول يقضي بتوجيه تظاهرة الى المقر واستهدافه وحرقه وهو مقترح رفضه كريم عبد السلام نظرا لسهولة تامين المقر. والطرح الثاني يقضي بالمداهمة الليلية وحرق المقر وهو ما تم فعلا.
كان مخطط التنفيذ يقضي بمداهمة المقر فجر 17 فيفري 1991 (الساعة 4 و45 دقيقة) وانقسام المهاجمين الى مجموعتين مجموعة يحمل افرادها الشارة الخضراء ويكمن دورها في تامين الاشخاص الذين في المقر والمجموعة الثانية يحمل اعضاؤها الشارة الحمراء وتتكفل بعملية الحرق. كما تم التخطيط لتنفيذ العملية في 3 دقائق والانسحاب في دقيقتين بما يضمن انتهاء العملية قبل وصول التعزيزات الامنية من مركز الامن القريب او من امن القصبة وان يتزامن توقيت التنفيذ مع فترة تبادل المواقع بين اعوان الامن الذين يعملون ليلا وفرق العمل الصباحية. ومن المخطط ايضا قطع الكهرباء لمنع تسرّب الحريق الى الحي لتأمين سلامة سكانه.
كان كريم عبد السلام في تلك الليلة "من بين المناوبين في الاشراف على الميليشيا التي تحرس مقر لجنة التنسيق وقبل التوجه الى هناك التقيت مصطفى حسين المسؤول المحلي على الخلية (ثلاثيني يعمل مهندس في البريد) والذي طلب مني بالحاح الغاء العملية بصفتي المخطط لها. وطلب مني ان نلتقي مجددا قبل الساعة صفر ب45 دقيقة للاستماع لرأيي النهائي وهو ما تم فعلا واكدت له اصراري على العملية".
توجه كريم مسرعا الى المقر وتوجه الى مكتب الكاتب العام المساعد المناوب حيث جلس اليه لتبادل اطراف حديث كان هزليا.
في لحظة التنفيذ، يقول كريم، انقطع التيار الكهربائي وعلت اصوات التكبير. "ولولا اني تمالكت نفسي لكنت كبرت مع المكبّرين. امتدت يد جليسي مرتعشة تلامسني يتساءل ما الذي يحدث حينها جذبته بعنف الى الشرفة وقلت له هذا افضل مكان لنفهم ماذا يحدث. غمر الدخان المكان وشاهدت أحد الحرّاس يخرج من باب المقر مسرعا والنار تلتهم جسده. كان المهاجمون وحراس المقر يتدافعون من الباب هربا ولا يمكن لأي كان ان يميّز بينهم. فهمت سريعا ان التنفيذ خالف التخطيط. لم اكترث. كنت فقط ارى ان النظام ينهار ونحن ننتصر وذلك اهم من كل التفاصيل".
تنكّر القيادة
"كنت والكاتب العام المساعد في الطابق الثاني للمبنى الذي تلتهمه النيران ولم يكن بمقدورنا الخروج سوى بمساعدة الحماية المدنية. هناك سمعت بخبر وفاة عمارة السلطاني وهو من قدماء منخرطي حزب الدستور الذين يشاركون في حراسة المقر في اطار لجان اليقظة".
بعد ساعة، يقول كريم عبد السلام، توافدت قيادات الحزب وكان عزوز الرباعي والباهي الادغم اول الواصلين وقد ربّت عزوز الرباعي على كتفي محييا شجاعتي.
انسحب عبد السلام في اتجاه موعده مع مصطفى حسين الرئيس المحلي المحدد عند الساعة العاشرة قرب جامع الزيتونة. "سالني ان كانت هناك حالات وفاة فاكدت له حالة وفاة وحيدة حينها دخل في هستيريا وبكى قائلا "قلت لكم عملية خطيرة. علاش هكة حرام عليكم علاش هكا". كان اليوم احد والحركة شبه مقفرة في المدينة الامر الذي سمح لمصطفى بالبكاء علنا.
عاد عبد السلام للمقر حيث كان الامين العام عبد الرحيم الزواري وصقور الحزب يتحركون بحماسة وقرروا اعادة طلاء المقر واصلاح ما حُرق منه لعقد اجتماع شعبي فيه عند الرابعة بعد الزوال.
تم القاء القبض على ثلاثة عناصر من المنفذين من بينهم مصطفى حسين وكُشِفت الخلية وعرف كريم في مقر لجنة التنسيق ان تسريبات الابحاث تشير الى تورط شخص يدعى "عبد الكريم" في التخطيط للاعتداء "فعرفت اني بتّ مطارد ودخلت مرحلة السرية بمساعدة بعض المعارف من غير المنتمين في صفاقس".
في السرية اطّلع كريم عبد السلام على بيان عبد الفتاح مورو وفاضل البلدي وبن عيسى الدمني القاضي بتجميد عضويتهم احتجاجا على عملية باب سويقة والصادر بتاريخ 8 مارس 1991. "لم افهم حينها كيف ان قادة الصف الاول ممن قرروا تحرير المبادرة واجازوا العمليات التي تمّت في اطارها يجدون الجرأة ليتبرؤوا منّا ويدّعوا عدم علمهم".
في السريّة ايضا علم عبد السلام انه صدر في حقه حكم بالسجن المؤبّد وصدر في حق الموقوفين احكام بالاعدام شنقا وهم محمد فتحي الزريبي ومحمد الهادي النغيراوي ومصطفى حسين. وخلال العشرية الاخيرة من شهر سبتمبر 1991 حاصرت قوات امنية من فرقة الارشاد بصفاقس مقر اختفاء عبد السلام والقت القبض عليه.
الحقيقة
بدات رحلة كريم عبد السلام مع التعذيب بتهمة حرق شعبة الاسواق وحرق مقر لجنة التنسيق بباب سويقة بالاضافة الى التحقيق معه حول وجود مخازن اسلحة في المدينة. وعرف عبد السلام وهو في غرف الايقاف والتعذيب انّ "ما كانت تعد به القيادة من اسقاط للنظام يعقب الضربات التي ستوجه في اطار "تحرير المبادرة" كان مجرد اوهام اغلب من صنعوها فروّا خارج البلاد".
حُوكِم صاحب هذه الشهادة التاريخية في جلسة مكتبية وسريّة لكونه دون سن ال18 عاما وحصل على حكم ب14 سنة سجنا.
وفي السجن تساءل سجناء الحركة من الشباب وخاصة من التلاميذ والطلبة حول جدوى العمليات ومدى صواب سياسة المواجهة التي كانوا من حطبها. وكان السجن زمنا للمراجعة والتقييم.
يقول عبد السلام "كنت قبل السجن اكفّر المثليين واناصر الاعدام باعتباره من حكم الشرع الذي سيكفل متى طبّق العدالة الحقيقية لافهم لاحقا وخاصة بعد تنفيذ حكم الاعدام في مصطفى الذي رفض العملية وحاول الغائها ان العقوبات الجسدية تهين البشر ولا تحقق العدل".
في السجن قام عبد السلام والكثيرين من ابناء جيله بمراجعات فكرية. وعرف ان "التمايز بيني وبين غيري ممن تمت محاكمتهم من اجل عنف او قتل ليس بالعمق الذي اظن كلنا نمارس العنف بغطاء من التبريرات تراوحت بين "رد الفعل" و"الغضب" و"الظروف القاسية". وقد حرمت وكل من سجن مثلي من تلاميذ وطلبة من حق مواصلة التعليم. كنّا جيل المحرقة وكانت عملية باب سويقة وما سبقها من عمليات مواجهة مع السلطة محل سؤال دائم داخل مجموعات المساجين في سياق تقييمي وتطور لاحقا خاصة في صفوف التلاميذ والطلبة الى سؤال حول مسؤولية القيادة عن المواجهة مع السلطة واستعمالهم فيها من دون اعتبار لهشاشتهم".
يقول عبد السلام إن القيادة فشلت في المهجر في محاولة الاستجابة لهذا السؤال بسبب عدم جرؤتها على تحديد المسؤوليات مشيرا الى انّ ابتعاده عن النهضة منذ العام 2005 لم يمنعه من تتبع اثر الاجابة عن هذا السؤال إلاّ ان "اعتراف القيادة في اللائحة التقييمية للمؤتمر العاشر بجانب من المسؤولية كان دون السقف الذي اطمح اليه". ومن هنا كان الدافع لتدوين شهادته بحثا عن "فهم اعمق للعدالة الانتقالية".
الأولى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.